أنعى إليك علومًا طالما هطلت … سحائب الوحي فيها أبحر الحكم
أنعى إليك لسان الحق مذ زمن … أودى وتذكاره كالوهم في العدم
أنعى إليك بيانًا تستسر له … أقوال كل فصيح مقول فهم
أنعى إليك إشارات العقول معا … لم يبق منهن إلَّا دارس العلم
أنعى وحقك أحلامًا لطائفة … كانت مطاياهم من مكمد الكظم
مضى الجميع فلا عين ولا أثر … مضي عاد وفقدان الأولى إرم
وخلفوا معشرًا يجدون لبستهم … أعمى من البهم بل أعمى من النعم
ثم سكت، فقال له خادمه أحمد بن فاتك: أوصني. قال: هي نفسك إن لم تشغلها، شغلتك. ثم أخرج، وقطعت يداه ورجلاه بعد أن ضرب خمس مائة سوط، ثم صلب، فسمعته وهو على الجذع يناجي، ويقول: أصبحت في دار الرغائب أنظر إلى العجائب. فهكذا هذا السياق أنه صلب قبل قطع رأسه. فلعل ذلك فعل بعض نهار. قال: ثم رأيت الشبلي وقد تقدم تحت الجذع، صاح بأعلى صوته يقول: أو لم ننهك عن العالمين. ثم قال له: ما التصوف؟ قال: أهون مرقاة فيه ما ترى. قال: فما أعلاه؟ قال: ليس لك إليه سبيل، ولكن سترى غدًا ما يجري، فإن في الغيب ما شهدته وغاب عنك. فلما كان العشي جاء الإذن من الخليفة أن تضرب رقبته، فقالوا: قد أمسينا ويؤخر إلى الغداة. فلما أصبحنا أنزل، وقدم لتضرب عنقه، فسمعته يصيح بأعلى صوته: حسب الواحد إفراد الواحد له. ثم تلا: ﴿يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا﴾ [الشورى: ١٨]، فهذا آخر كلامه. ثم ضربت رقبته، ولف في بارية، وصب عليه النفط، وأحرق، وحمل رماده إلى رأس منارة لتسفيه الرياح. فسمعت أحمد بن فاتك -تلميذ والدي- يقول بعد ثلاث، قال: رأيت كأني واقف بين يدي رب العزة، فقلت: يا رب ما فعل الحسين بن منصور؟ فقال: كاشفته بمعنى، فدعا الخلق إلى نفسه، فأنزلت به ما رأيت.
قال ابن باكويه: سمعت ابن خفيف يسأل: ما تعتقد في الحلاج؟ قال: أعتقد أنه رجل من المسلمين فقط. فقيل له: قد كفره المشايخ وأكثر المسلمين. فقال: إن كان الذي رأيته منه في الحبس لم يكن توحيدًا، فليس في الدنيا توحيد.
قلت: هذا غلط من ابن خفيف، فإن الحلاج عند قتله ما زال يوحد الله ويصيح: الله الله في دمي، فأنا على الإسلام. وتبرأ مما سوى الإسلام، والزنديق فيوحد الله علانية، ولكن