للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

أحدس في نفسي مع ما عهدته عليه من الزعارة والنظر إلى الناس بعين الاستخفاف كبرًا وخيلاءً، واعتزازًا بما رزق من البسطة، والنطق، والذهن، وطلب العلو؛ أنه صار إلى الضد، وتصفى عن تلك الكدورات، وكنت أظنه متلفعًا بجلباب التكلف، متنمسًا بما صار إليه، فتحققت بعد السبر والتنقير أن الأمر على خلاف المظنون، وأن الرجل أفاق بعد الجنون، وحكى لنا في ليالٍ كيفية أحواله من ابتداء ما أظهر له طريق التأله، وغلبة الحال عليه بعد تبحره في العلوم، واستطالته على الكل بكلامه، والاستعداد الذي خصه الله به في تحصيل أنواع العلوم، وتمكنه من البحث والنظر، حتى تبرم بالاشتغال بالعلوم العرية عن المعاملة، وتفكر في العاقبة، وما يبقى في الآخرة، فابتدأ بصحبة الشيخ أبي علي الفارمذي، فأخذ منه استفتاح الطريقة، وامتثل ما كان يأمره به من العبادات والنوافل والأذكار والاجتهاد طلبًا للنجاة، إلى أن جاز تلك العقاب، وتكلف تلك المشاق، وما حصل على ما كان يرومه.

ثم حكى أنه راجع العلوم، وخاض في الفنون الدقيقة، والتقى بأربابها حتى تفتحت له أبوابها، وبقي مدةً في الوقائع وتكافؤ الأدلة، وفتح عليه بابٌ من الخوف بحيث شغله عن كل شيء، وحمله على الإعراض عما سواه، حتى سهل ذلك عليه، إلى أن ارتاض، وظهرت له الحقائق، وصار ما كنا نظن به ناموسًا وتخلقًا، طبعًا وتحققًا، وأن ذلك أثر السعادة المقدرة له.

ثم سألناه عن كيفية رغبته في الخروج من بيته، والرجوع إلى ما دعي إليه، فقال معتذرًا: ما كنت أجوز في ديني أن أقف عن الدعوة، ومنفعة الطالبين، وقد خف علي أن أبوح بالحق، وأنطق به، وأدعو إليه، وكان صادقًا في ذلك، فلما خف أمر الوزير، وعلم أن وقوفه على ما كان فيه ظهور وحشةٍ وخيال طلب جاهٍ، ترك ذلك قبل أن يترك، وعاد إلى بيته، واتخذ في جواره مدرسةً للطلبة، وخانقاه للصوفية، ووزع أوقاته على وظائف الحاضرين من ختم القرآن، ومجالسة ذوي القلوب، والقعود للتدريس، حتى توفي بعد مقاساةٍ لأنواع من القصد، والمناوأة من الخصوم، والسعي فيه إلى الملوك، وحفظ الله له عن نوش أيدي النكبات.

إلى أن قال: وكانت خاتمة أمره إقباله على طلب الحديث، ومجالسة أهله، ومطالعة "الصحيحين"، ولو عاش، لسبق الكل في ذلك الفن بيسير من الأيام. قال: ولم يتفق له أن يروي، ولم يعقب إلَّا البنات، وكان له من الأسباب إرثًا وكسبًا ما يقوم بكفايته، وقد عرضت عليه أموالٌ، فما قبلها.

قال: ومما كان يعترض به عليه وقوع خللٍ من جهة النحو في أثناء كلامه، وروجع فيه،

<<  <  ج: ص:  >  >>