وعلامة العاضد بخطه: هذا عهد لم يعهد مثله لوزير، فتقلد أمانةً رآك أمير المؤمنين لها أهلًا، والحجة عليك عند الله بما أوضحه لك من مراشد سبله، فخذ كتاب أمير المؤمنين بقوة، واسحب ذيل الفخار بأن اعتزت بك بنوة النبوة، واتخذ للفوز سبيلًا: ﴿وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا﴾ [النحل: ٩١].
وقام شاور لضيافة الجيش، فطلبوا منه النفقة، فماطل، ثم شد عليه أمراء، فقبضوا عليه، وذبح، وحمل رأسه إلى العاضد، ومات شيركوه بعد الولاية بشهرين.
قال العماد: أحرق شاور مصر، وخاف عليها من الفرنج، ودامت النار تعمل فيها أربعةً وخمسين يومًا.
وقلد العاضد منصب شيركوه لابن أخيه صلاح الدين، فغضب عرب مصر وسودانها، وتألبوا، وأقبلوا في خمسين ألفًا، فكان المصاف بين القصرين يومين، وراح كثير منهم تحت السيف، وكانت الزلزلة العظمى بصقلية أهلكت أممًا.
وفي سنة خمس وستين جاءت زلازل عظام بالشام، ودكت القلاع، وأفنت خلقًا، وحاصرت الفرنج دمياط خمسين يومًا، فعجزوا، ورحلوا، وأخذ نور الدين سنجار، وتوجه إلى الموصل، ورتب أمورها، وبنى بها الجامع الأكبر، وسار فحاصر الكرك، ونصب عليها منجنيقين، وجد في حصارها، فأقبلت نجدة الفرنج، فقصدهم نور الدين، وحصدهم، وتمكن بمصر صلاح الدين وذهب إليه أبوه، فكان يومًا مشهودًا، ركب العاضد بنفسه لتلقيه. قال صلاح الدين: ما رأيت أكرم من العاضد، بعث إلي مدة مقام الفرنج على حصار دمياط ألف ألف دينار مصرية سوى الثياب وغيرها.
وقيل: إن المستنجد كان فيه عدل ورفق، بطل مكوسًا كثيرة.
قال ابن النجار: كان موصوفًا بالفهم الثاقب، والرأي الصائب، والذكاء الغالب، والفضل الباهر، له نظم ونثر، ومعرفة بالأسطرلاب، توفي في ثامن ربيع الآخر سنة ست وستين وخمس مائة، وقام بعده ابنه المستضيء.
قلت: الإمام إذا كان له عقل جيد ودين متين، صلح به أمر الممالك فإن ضعف عقله، وحسنت ديانته، حمله الدين على مشاورة أهل الحزم، فتسددت أموره، ومشت الأحوال، وإن قل دينه، ونبل رأيه، تعبت به البلاد والعباد، وقد يحمله نبل رأيه على إصلاح ملكه ورعيته للدنيا لا للتقوى، فإن نقص رأيه، وقد دينه وعقله، كثر الفساد، وضاعت الرعية، وتعبوا به، إلَّا أن يكون فيه شجاعة وله سطوة وهيبة في النفوس، فينجبر الحال، فإن كان جبانًا، قليل الدين، عديم الرأي، كثير العسف، فقد تعرض لبلاء عاجل، وربما عزل وسجن إن لم يقتل، وذهبت عنه الدنيا، وأحاطت به خطاياه، وندم -والله- حيث لا يغني الندم، ونحن آيسون اليوم من وجود إمام راشد من سائر الوجوه، فإن يسر الله للأمة بإمام فيه كثرة محاسن وفيه مساوئ قليلة، فمن لنابه، اللهم فأصلح الراعي والرعية، وارحم عبادك، ووفقهم، وأيد سلطانهم، وأعنه بتوفيقك.