للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولقد كان لنشوء الدولة الحديثة وتطور بنائها وأنظمتها وقوانينها، وما رافق ذلك من إعادة صياغة للنظم بغية مواكبة تطورات شؤون الحياة وتوسع مجالاتها، أثر بارز في نظام القضاء نفسه في البلاد الإسلامية خصوصًا بعد الاحتكاك القريب والتفاعل في مجمل الميادين بين المجتمع الإسلامي والمجتمعات الحديثة، فمست الحاجة إلى إعادة صياغة قوانين القضاء صياغة عصرية يكفل لها الاستجابة للمستجدات وللنوازل، ويسمح لها بالنهوض بما يواجهها، وكانت أبرز محاولة في هذا السياق مجلة الأحكام العدلية الصادرة سنة ١٢٩٣ هـ، والتي حاولت الدولة العثمانية تطبيقها في مجمل الأقطار التي خضعت لسلطانها، وهي بالرغم من كونها اقتبست في معظم أحكامها من الفقه الحنفي، إلا أنها كانت تطمح في صياغتها إلى مواكبة تطور القوانين الوضعية في البلدان الأوروبية سواء منها ما يتصل بطرق التقاضي، أو ما يتصل بتحديد وظائف المحاكم واختصاصاتها، أو ما يتصل بالقوانين الواجب تطبيقها في كل اختصاص قضائي (١).

ولم تخرج مجلة الأحكام العدلية في موضوع الاختصاص عن أقوال الفقهاء في هذا السياق، كما لم تكن قوانينها إلا تطبيقًا لهذه الآراء التي تقضي بجواز تخصيص القضاء بنوع خاص من الدعاوى، وبجواز تخصيصه بالزمان والمكان والمذهب.

ولقد كان يفترض هؤلاء أن لولي الأمر أن يخصص قضاة متخصصين بالنظر في كل نوع من أنواع الدعاوى، كأن ينصب قاضيًا خاصًّا للنظر في دعاوى النكاح وما يتعلق به، أو بالدعاوى الجنائية، أو التجارية ... إلخ.

وكان يجب إتباع ولي الأمر إذا خصص القضاة بنوع من الدعاوى، ولم يكن يجوز للقاضى مخالفته والنظر فيما لا يدخل تحت اختصاصه، لجهة أن لولي الأمر أن يحدد وظيفة القاضي، كما كان له أن ينصبه ... فهو التزام بما يحفظ للدولة نظامها العام واتساق قوانينها وسلامة بنيانها، وكان على القاضي المختص أن ينظر في


(١) انظر: أصول المرافعات في القضاء الشرعي، محمد شفيق العاني، ٨.

<<  <  ج: ص:  >  >>