ثم أمر السلطان صلاح الدين جيوشه أن تستريح لتتقدم إلى فتح بيت المقدس، ففي هذه الإستراحة كيف كانت النفوس المؤمنة التي لا تيأس؟: الرؤوس لم ترفع من سجودها، والدموع لم تمسح من خدودها، يوم عادت البيع مساجداً، والمكان الذي قال فيه: إن الله ثالث ثلاثة صار يشهد فيه: أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ثم سار نحو بيت المقدس ليفتح من الجهة الشرقية ويخرجهم منه فكان له ذلك على أن يبذل كل رجل منهم –ويخرج ذليلا- عن نفسه عشرة دنانير وعن المرأة خمسة وعن الطفل دينارين ومن عجز كان أسيرا للمؤمنين، فعجز منهم ستة عشر ألفاً كانوا أسراء للمسلمين.
ودخل المسلمون بيت المقدس، وطهروه من الصليب وطهروه من الخنزير، ونادى المسلمون بالآذان ووحدوا الرحمن وجاء الحق وبطلت الأباطيل وكثرت السجدات وتنوعت العبادات وارتفعت الدعوات وتنزلت البركات وتجلت الكربات وأقيمت الصلوات وأذن المؤذنون وخرس القسيسيون وأحضر منبر نورالدين الشهيد عليه رحمة الله الجليل الذي كان يأمل أن يكون الفتح على يديه فكان على يدي تلميذه صلاح الدين، ورقى الخطيب المنبر في أول جمعة بعد تعطل للجمعة والجماعة في المسجد الأقصى دام واحد وتسعين عاما، فكان مما بدأ به الخطيب خطبته بعد أن حمد الله أن قال:(فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)(الأنعام:٤٥)، (لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ)(الروم:٤).
معاشر المسلمين: إن الأقصى لم تعطل فيه الجمعة ولم تعطل فيه الجماعة ومع ذا:
يئست أنفس ونامت عيون ... فجراح تغدو وتأتي جراح
فأين النجم من شمس وبدر ... وأين الثعلبان من الهزبر