أمره مقلًا حتى احتاج في سفره إلى القصد بشعره، وإيجار نفسه مدة مقامه ببغداد فيما سمعته، مستفيضًا لحراسة درب، وقد جمع ولده شعره، وكان ابتدأ بكتاب "الاستيفاء" في الفقه، لم يضع منه سوى كتاب الطهارة في مجلدات. قال لي: ولما قدم من الرحلة إلى الأندلس وجد لكلام ابن حزم طلاوةً، إلَّا أنه كان خارجًا عن المذهب، ولم يكن بالأندلس من يشتغل بعلمه، فقصرت ألسنة الفقهاء عن مجادلته وكلامه، واتبعه على رأيه جماعة من أهل الجهل، وحل بجزيرة ميورقة، فرأس فيها، واتبعه أهلها، فلما قدم أبو الوليد؛ كلموه في ذلك، فدخل إلى ابن حزم، وناظره، وشهر باطله. وله معه مجالس كثيرة. قال: ولما تكلم أبو الوليد في حديث الكتابة يوم الحديبية الذي في صحيح البخاري. قال بظاهر لفظه، فأنكر عليه الفقيه أبو بكر بن الصائغ، وكفره بإجازته الكتب على رسول الله ﷺ النبي الأمي، وأنه تكذيب للقرآن، فتكلم في ذلك من لم يفهم الكلام، حتى أطلقوا عليه الفتنة، وقبحوا عند العامة ما أتى به، وتكلم به خطباؤهم في الجمع، وقال شاعرهم:
برئت ممّن شرى دنيا بآخرةٍ … وقال إنّ رسول اللّه قد كتبا
فصنف القاضي أبو الوليد "رسالةً" بين فيها أن ذلك غير قادح في المعجزة، فرجع بها جماعة.
قلت: يجوز على النبي ﷺ أن يكتب اسمه ليس إلا، ولا يخرج بذلك عن كونه أميًا، وما من كتب اسمه من الأمراء والولاة إدمانًا للعلامة يعد كاتبًا، فالحكم للغالب لا لما ندر، وقد قال ﵇:"إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب"(١). أي لأن أكثرهم كذلك، وقد كان فيهم الكتبة قليلًا. وقال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا﴾ [الجمعة: ٢]. فقوله -عليه الصلاة- السلام:"لا نحسب" حق، ومع هذا فكان يعرف السنين والحساب، وقسم الفيء، وقسمة لمواريث بالحساب العربي الفطري لا بحساب القبط ولا الجبر والمقابلة، بأبي هو ونفسي ﷺ، وقد كان سيد الأذكياء، ويبعد في العادة أن الذكي يملي الوحي وكتب الملوك وغير ذلك على كتابه، ويرى اسمه الشريف في خاتمه، ولا يعرف هيئة ذلك مع الطول، ولا يخرج بذلك عن أميته، وبعض العلماء عد ما كتبه يوم الحديبية من معجزاته، لكونه لا يعرف الكتابة وكتب، فإن قيل: لا يجوز عليه أن يكتب، فلو كتب؛ لارتاب مبطل، ولقال: كان يحسن الخط، ونظر في كتب الأولين. قلنا: ما كتب خطًا كثيرًا حتى يرتاب به المبطلون، بل قد يقال: لو قال مع طول مدة كتابة الكتاب بين يديه: لا
(١) صحيح: أخرجه البخاري "١٩١٣"، ومسلم "١٠٨٠"، وأبو داود "٢٣١٩"، والنسائي "٤/ ١٣٩".