ويقطع الفيافي والمفاوز الخطيرة، ويجوب البلاد شرقاً وغرباً في طلب حديثٍ واحدٍ ليسمعه من راويه. فمنهم من يكون الباعث له على الرِّحلة طلب ذلك الحديث لذاته. ومنهم من يقرن بتلك الرغبة سماعه من ذلك الراوى بعينه، إما لثقته في نفسه، وصدقه في نقله، وإما لعلو إسناده، فانبعثت العزائم إلى تحصيله.
وكان اعتمادهم أولاً على الحفظ والضبط في القلوب والخواطر، غير ملتفتين إلى ما يكتبونه، ولا معولين على ما يسطرونه، محافظة على هذا العلم، كحفظهم كتاب الله عز وجل، فلما انتشر الإسلام، واتسعت البلاد، وتفرقت الصحابة في
الأقطار، وكثرت الفتوح، ومات معظم الصحابة، وتفرق أصحابهم وأتباعهم، وقل الضبط، احتاج العلماء إلى تدوين الحديث وتقييده بالكتابة، ولعمري إنها الأصل، فإن الخاطر يغفل، والذهن يغيب، والذكر يهمل، والقلم يحفظ ولا ينسى (١) .
فانتهى الأمر إلى زمن جماعة من الأئمة، مثل عبد الملك بن جريج،
(١) على أنه ثبت عن بعض الصحابة رضي الله عنهم أنهم كانوا يكتبون بعضاً من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم أو لغيرهم، من ذلك كتابة بعض الصحابة لأبي شاه - وهو رجل من أهل اليمن - بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة من خطبه، ومنه ما ذكر أبو هريرة من شأن عبد الله بن عمرو بن العاص، رضي الله عنهما، ومنه ما كان من قصة صحيفة لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه فيها شيء من العلم، وكل ذلك في الصحيح، ومن ذلك كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل اليمن، أخرجه النسائي والدارمي وغيرهما.