أما حديث جابر:«كان آخر الأمرين ترك الوُضُوء مما مسَّت النار»، فلا يعارض حديث الوُضُوء من لحم الإِبل، فضلاً عن أن يكون ناسخاً له؛ لأنه عام، والعام يُحمل على الخاصِّ، باتِّفاق أهل العلم، فيخرج منه الصُّور التي قام عليها دليل التَّخصيص، ولا يُقال بالنسخ مع إِمكان الجمع؛ لأن النَّسخ مع إمكان الجمع إبطال لأحد الدَّليلين، مع أنه ليس بباطل.
والغرض من حديث جابر: بيان أن الوُضُوءَ مما مسَّت النَّار ليس بواجب؛ فإِن النبيَّ ﷺ كان قد أمر بالوُضُوء مما مَسَّت النارُ، وصحَّ عنه الأمر بذلك، فقال جابر:«كان آخُر الأمرين تركَ الوُضُوء مما مسَّت النار».
والنبيُّ ﷺ إِذا أمر بأمرٍ وفعل خلافه، دَلَّ على أن الأمر ليس للوجوب.
وأصَّلَ بعضُ أهل العلم أصلاً ليس بأصيل، ومالَ إِليه الشَّوكاني (١)، وهو أن النبيَّ ﷺ إِذا أمرَ بأمرٍ، وفعل خلافه، صار الفعلُ خاصًّا به، وبقي الأمر بالنسبة للأمة على مدلوله للوجوب.
وهذا ضعيف؛ لأنَّ سُنَّة الرَّسول ﷺ تشمل قوله ﷺ وفعله، فإِذا عارض قولُه فعلَه، فإِن أمكن الجمع فلا خصوصية؛ لأننا مأمورون بالاقتداء به قولاً وفعلاً، ولا يجوز أن نحمله على ....
(١) انظر: «نيل الأوطار» للشوكاني، كتاب الطهارة: باب الوضوء من لحوم الإبل (١/ ٢٥٣) وباب استحباب الوضوء مما مسته النار (١/ ٢٦٢).