على هذا انقرضَتِ الأعصارُ الكريمة، وبها صرَّحت فتاوى أئمة الهدى المستقيمة، حتى حدثَت مذاهبُ المعتزلة المبتدعة، فقالوا: إنَّهُ لا يصحُّ الإيمانُ الشرعيُّ إلا بعد الإحاطةِ بالبراهينِ العقليَّةِ والسمعيَّة، وحصولِ العلمِ بنتائجها ومطالبها، ومَن لم يحصُل إيمانه كذلك فليس بمؤمن، ولا يجزئ إيمانُهُ بغير ذلك؛ وتبعهم على ذلك جماعةٌ من متكلِّمي أصحابنا؛ كالقاضي أبي بكر، وأبي إسحاقَ الإسفَرَايِينِيِّ، وأبي المَعَالِي في أوَّل قولَيهِ.
والأولُ هو الصحيح؛ إذ المطلوب من المكلَّفين ما يقال عليه: إيمان؛ كقوله تعالى: آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَن لَم يُؤمِن بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ.
والإيمانُ: هو التصديقُ لغةً وشرعًا؛ فمَن صدَّق بذلك كلِّه، ولم يُجَوِّز نقيضَ شيء من ذلك: فقد عَمِلَ بمقتضى ما أمره الله به على نحو ما أمره الله تعالى، ومَن كان كذلك، فقد تَقصَّى عن عُهدَةِ الخطاب؛ إذ قد عمل بمقتضى السُّنَّةِ والكتاب، ولأنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابَهُ بعده حكموا بصحَّةِ إيمانِ كُلِّ مَن آمن وصدَّق بما ذكرناه، ولم يفرِّقوا بين مَن آمن عن برهان أو عن غيره؛ ولأنَّهم لم يأمروا أجلافَ العربِ بترديد النظر، ولا سألوهم عن أدلَّةِ تصديقهم، ولا أرجؤوا إيمانَهُم حتى ينظروا، وتحاشَوا عن إطلاق الكفر على أحدٍ منهم، بل سَمَّوهُمُ المؤمنين والمسلمين، وأَجرَوا عليهم أحكامَ الإيمان والإسلام، ولأنَّ البراهين التي حرَّرها المتكلِّمون، ورتَّبها الجَدَليُّون، إنما أحدثها المتأخِّرون، ولم يَخُض في شيء من تلك الأساليب السلَفُ الماضون؛ فمِنَ المحال والهذيان: أن يُشتَرَطَ في صحة الإيمان، ما لم يكن معروفًا ولا معمولاً به لأهلِ ذلك الزمان، وهم مَن هم فَهمًا عن الله، وأخذًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتبليغًا لشريعتِهِ، وبيانًا لسنته وطريقتِهِ، وسيأتي قولٌ شافٍ في ذلك إن شاء الله.