للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

في مكة المكرمة، والمدينة المنورة، والقدس، والقاهرة، حتى اكتملَ له نصابُ المعرفة والحفظ، وتسنَّم عن جدارة منصبَ المدرس البليغ في علوم العربية، والمحدِّث الثبت في علوم الحديث رواية ودراية، والفقيه المستحضر في المذاهب الفقهية، والشاهد العدل في الحياة العلمية والاجتماعية. وأصبحَ بعد هذا التحصيل العلميّ والثقافيّ، منارة شامخة للعلم والمعرفة، تتوسط بين مشرق العالم العربي ومغربه، ويرتحل الناس إليه من جميع الأقطار، يأخذون عنه العلم والسماع، وينتفعون بكتبه (١) ومروياته، فاستحق ما أطلقه عليه الذهبي بحق "عالم الإسكندرية" (٢) بلا منافس ولا منازع.

٣ - الفقيه المُحدِّث:

نستطيعُ بكل ثقة أن نعدَّ أبا العبَّاس القرطبيّ من العلماء الجامعيين الذين وَعَوْا في صدورهم وعقولهم علومًا عديدة ومعارف متنوِّعة، تشملُ الفقه وأصوله، والحديث ورجاله، والعربية وعلومها المتعدِّدة، والتفسير والقراءات.

ويظهرُ هذا واضحًا من خلال عنوانات كتبه، ونلمسُه من ثنايا كتابه "المفهم"، وهو الوحيد الذي وصلَنا حتى الآن من مؤلفاته، إذ نجدُه يُمسِكُ بعِنانِ قلمه، وهو يَستنتجُ قاعدةً أصولية، أو يَشرح كلمةً غريبة، أو يُفسِّر آيةً قرآنية، أو يُوضِح حكمًا فقهيًا؛ فيوقفُ دفقَ معلوماته الغزيرة في المكان والزمان المناسب، حتى لا يضيعَ المُتلقِّي في استطراداتِ مملَّة، ويُصرِّح جازمًا: "وهذا مكان استيفائه في كتب الفروع" .. أو "وهذا استقصيناه في كتابنا الأصول".

ومع ذلك فنستطيعُ أن نقطعَ جازمين، من خبرة سنوات ثلاث، رافقنا فيها ضياء الدين القرطبي، وعشنا معه في علمه الغزير، وفكره الثاقب، وغيرته المُتَّقِدَة على الاسلام والمسلمين؛ أنه أولًا: نقيه مالكيٌّ بارعٌ ومتمكِّن، بل عُدَّ


(١) الديباج المذهب (ص ٧٠).
(٢) نفح الطيب (٢/ ٦١٥).

<<  <  ج: ص:  >  >>