القذف. هذا قولُ طائفةٍ من علماء أصحابنا وغيرهم، وهو ظاهرٌ من الأحاديث التي ذكرناها. غير أنه يرد عليهم أن يقال: هذا معارضٌ بوجهين:
أحدهما: أن علي بن أبي طالب قد قال: جلد رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أربعين، وأبو بكرٍ أربعين، وجلد علي بحضرة عثمان، والصحابة - رضي الله عنهم - أربعين، ودوامهم على مراعاة هذا العدد يدل على أنَّه حدٌّ محدود، ولو كان تعزيرًا لاختلف بحسب اجتهاد كلّ واحدٍ منهم.
وثانيهما: أن الأمَّة مُجمعة على أنَّ الحدَّ في الخمر أحد العددين؛ إمَّا أربعون، وإمَّا ثمانون.
قال القاضي عياض: أجمع المسلمون على وجوب الحدِّ في الخمر. وكيف تُجمِعُ الأمَّةُ على خلاف ما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ !
فالجواب عن الوجهين: أن الصحابة - رضوان الله عليهم - هم الذين نقلوا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يدلُّ على التعزير، وهم الذين نقلوا ما يدل على التحديد. والذين قاسوا واجتهدوا هم الذين عدَّدوا وحدَّدُوا، ولم ينصَّ أحدٌ منهم على نفي أحد الوجهين وثبوت الآخر، وإنما هو نقل أحوالٍ محتملة، فلا بدَّ من التلفيق بين أقوالهم؛ لاستحالة التناقض والكذب عليهم.
ووجهُ التلفيق: أن الصحابةَ - رضي الله تعالى عنهم - فهمت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنَّ جَلده كان تعزيرًا؛ لأنَّه قد اختلف حاله فيه، فمرةً جلد فيه بالأيدي، والنِّعال، والثياب من غير عددٍ. ومرَّةً جلد فيه بالجريد والنعال أربعين. ومرَّةً جلد فيه بجريدتين نحو الأربعين، فهذه نحو الثمانين. فهذا تعزير بلا شك، لكن لَمَّا كان أكثر جلده أربعين اختاره أبو بكر، وعمر في أول أمره، فلمَّا كثر إقدامُ الناس على شرب الخمر، تفاوضت الصحابة في ذلك ونظروا، فظهر لهم: أن ذلك القدر