ولا يفهم من هذا الحديث: أن هذا الجان الذي قتله الفتى كان مسلمًا، وأن الجنَّ قتلته قصاصًا؛ لأنَّه لو سلم: أن القصاص مشروع بيننا وبين الجن، لكن: إنما يكون في العمد المحض، وهذا الفتى لم يقصد، ولم يتعمد قتل نفس مسلمة؛ إذ لم يكن عنده علم من ذلك، وإنما قصد إلى قتل ما سوَّغ له قتل نوعه شرعًا، فهذا قتل خطأ، ولا قصاص فيه. فالأولى أن يقال: إن كفار الجن أو فسقتهم قتلوا الفتى بصاحبهم عدوانًا وانتقامًا، وإنما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إن بالمدينة جنًّا قد أسلموا. . .) إلى آخر الحديث؛ ليبين طريقًا يحصل به التحرُّز من قتل المسلم منهم، ويتسلط به على قتل الكافر منهم، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم:(فإذا رأيتم منها شيئًا فآذنوه ثلاثة أيام، فإن بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه، فإنما هو شيطان) ولذلك قال مالك: أحبُّ إلي أن ينذروا ثلاثة أيام. قال عيسى بن دينار: ينذر ثلاثة أيام، وإن ظهر في اليوم مرارًا، ولا يقتصر على إنذاره ثلاث مرار في يوم واحد حتى يكون في ثلاثة أيام.
قلت: وهذا تنبيه: على أن من الناس من يقول: إن الإذن ثلاث مرَّات، وهو الذي يفهم من قوله:(فليؤذنه ثلاثًا) ومن قوله: (فحرجوا عليه ثلاثًا) لأنَّ ثلاثًا للعدد المؤنث، فيظهر: أن المراد ثلاث مرَّات، والأولى: ما صار إليه مالك؛ لأنَّ قوله:(ثلاثة أيام) نصٌّ صحيح، مقيَّد لتلك المطلقات، فلا يُعدل عنه، ويمكن أن يحمل تأنيث العدد على إرادة ليالي الأيام الثلاثة، فغلب الليلة على عادة العرب في باب التاريخ، فإنَّها تغلب فيها التأنيث.
و(قوله: فحرِّجوا عليها ثلاثًا) قال مالك: يكفي في الإنذار أن يقول: أحرِّج عليك بالله واليوم الآخر ألا تبدو لنا، ولا تؤذينا. وحكى ابن حبيب عن