فكأنه قال: لا يليق هذا القول بك لعلمك وفهمك، وإنما يليق ذلك بغيرك ممن قل علمه وقصر فهمه. ثم احتج عليه بأن قال نعم، نفرُّ من قدر الله إلى قدر الله؛ إذ لا محيص للإنسان عما قدَّره الله عليه، لكن أمرنا الله بالتحرُّز من المخاوف والهلكات وباستفراغ الوسع في التوقي من المكروهات والحذر وجلب المنافع ودفع الضرر، ثم المقصِّر في ذلك ملوم عادة وشرعًا ومنسوبٌ إلى التفريط عقلًا وسمعًا، وإن زعم أنه المتوكل على الله المسلِّم لأمر الله.
ولما بيَّن عمر ذلك المعنى بالمثال لاح الحق وارتفع الجدال، ثم لم يبرح عمر من مكانه حتى جاءه الحق ببرهانه، فحدَّثهم عبد الرحمن بما قاله في ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فسُرَّ بذلك عمر - رضي الله عنه - سرورًا ظهر لديه فحمد الله وأثنى عليه حيث توافق الرأي والسمع وارتفع الخلاف وحصل الجمع، فرجع من موضعه ذلك إلى المدينة سالِمًا موفورًا، وكان في سعيه ذلك مصيبًا مشكورًا.
وعند هذا يعلم الفطن العاقل أن تلك الأقوال التي حكيت عنه في ندمه على الرجوع من سرغ ومن فتياه بإباحة القدوم على الوباء والفرار منه لم يصح عنه شيء من ذلك، وكيف يندم على هذا النظر القويم ويرجع عن هذا المنهج المستقيم الذي قد تطابق عليه العقل والسمع واصطحب عليه الرأي والشرع! هذا ما لا يكون، فالحاكون عنه هم المتقوِّلون، والله تعالى أعلم.
ومن أعظم فوائد هذا الحديث إجماع الصحابة - رضي الله عنهم - على العمل بالرأي والاجتهاد وقبول أخبار الآحاد كما بيَّنا ذلك في الأصول.