وقد اختلفت أقوال علمائنا في تأويل هذا الحديث. فقال بعضهم: كانت عينًا متخيَّلة لا حقيقية. ومنهم من قال: هي عين معنوية. وإنما فقأها بالحجَّة، وهذان القولان لا يلتفت إليهما لظهور فسادهما، وخصوصًا الأول، فإنَّه يؤدي إلى: أن ما يراه الأنبياء من صور الملائكة لا حقيقة له، وهو قول باطل بالنصوص المنقولة، والأدلة المعقولة. ومنهم من قال: كان ذلك ابتلاء وامتحانًا لملك الموت، فإنَّ الله تعالى يمتحن خلقه بما شاء. وهذا ليس بجواب، فإنَّه إنما وقع الإشكال في صدور سبب هذا الامتحان من موسى، وكيف يجوز وقوع مثل هذا؟ وأشبه ما قيل فيه: ما قاله الشيخ الإمام أبو بكر بن خزيمة، وهو أن موسى ـ عليه السلام ـ لم يعرف ملك الموت، وأنه رأى رجلًا دخل منزله بغير إذنه يريد نفسه، فدافع عن نفسه، فلطم عينه، ففقأها. وتجب المدافعة في مثل هذا بكل ممكن. وهذا وجه حسن، غير أن هذا اعترض عليه بما في الحديث، وهو أن ملك الموت لما رجع إلى الله قال: يا رب! أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت، فلو لم يعرفه موسى - وإنما دفعه عن نفسه - لما صدق هذا القول من ملك الموت.
قلت: وقد أظهر لي ذو الطول والإفضال وجهًا حسنًا يحسم مادة الإشكال، وهو أن موسى عَرَف ملك الموت، وأنه جاء ليقبض روحه، لكنه جاء مجيء الجازم بأنه قد أمر بقبض روحه من غير تخيير، وعند موسى ما قد نص عليه نبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ من: أن الله تعالى لا يقبض روح نبي حتى يخيره (١)، فلمَّا جاءه على غير الوجه الذي أعَلِم به، بادر بشهامته، وقوة نفسه إلى أدب ملك الموت، فلطمه فانفقأت عينه امتحانًا لملك الموت، إذ لم يصرح له بالتخيير، ومما يدل على صحة هذا: أنه لما رجع إليه ملك الموت، فخيَّره بين الحياة والموت، اختار الموت واستسلم، وهذا الوجه - إن شاء الله - أحسن ما قيل فيه وأسلم، وقد تقدَّم القول