من هذا أن الذين جمعوا القرآن على عهد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا يُحصيهم أحد، ولا يضبطهم عدد.
وأما الثاني وهو العادة: وذلك أنها تقتضي أن يجتمع العدد الكثير، والجم (١) الغفير على حِفظه ونقله، وذلك أن القرآن على نظم عجيب، وأسلوب غريب، مخالف لأساليب كلامهم في نثرهم ونظمهم مع ما تضمَّنه من العلوم والأحكام، ومعرفة الحلال والحرام، والقَصَص والأخبار، والتبشير والإنذار، والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع ذلك يُشيعه في الناس، ويشافه به البلغاء الأكياس، وما كان هذا سبيله فالعادة تقتضي: أن تتوفر الدواعي على حفظ جميعه، والوقوف على ما تضمنه من أنواع حكمه وبدائعه، ومحاسن آدابه وشرائعه، ويحيل انفراد الآحاد بحفظه كما يحيل انفرادهم بنقله، فقد ظهر من هذه المباحث العجاب أن ذلك الحديث ليس له دليل خطاب، فإنَّ قيل: فإذا لم يكن له دليل خطاب فلأي شيء خصَّ هؤلاء الأربعة بالذكر دون غيرهم؟ فالجواب من أوجه:
أحدها: أنه يحتمل أن يكون ذلك لتعلُّق غَرَض المتكلم بهم دون غيرهم كالحال في ذكر الألقاب.
وثانيها: لحضور هؤلاء الأربعة في ذهنه دون غيرهم.
وثالثها: أن هؤلاء الأربعة قد اشتهروا بذلك في ذلك الوقت دون غيرهم ممن يحفظ جميعه.
ورابعها: لأن أنسًا سمع من هؤلاء الأربعة إخبارهم عن أنفسهم أنهم جمعوا القرآن، ولم يسمع مثل ذلك من غيرهم، وكلُّ ذلك محتمل، والله تعالى أعلم.