وأمّا المكانان، فالأوّل كان ببعضِ جهات مكّة عند مُرضِعته، والثاني عند البيت. وأمّا الحالان، فالأوّل نُزِعَ من قلبه ما كان يَضُرُّه وغُسِل، وهو إشارة إلى عصمته، والثاني غُسِل ومُلِئ حكمةً وإيمانًا، وهو إشارة إلى التهيُّؤ إلى مشاهدته ما شاء الله أن يشهده. ولا يلتَفِت إلى قول مَن قال: إنّ ذلك كان مرّةً واحدة في صِغَرِه، وأخذ يُغَلِّط بعض الرواة الذين رووا أحد الخبرين، فإنّ الغلط به أليق، والوَهم منه أقرب، فإن رواة الحديثين أئمّةٌ مشاهير حُفَّاظ. ولا إحالةَ في شيء ممّا ذكروه، ولا معارضةَ بينهما ولا تناقُضَ، فصحّ ما قلناه. وبهذا قال جماعة من العلماء، منهم القاضي المُهلَّب بن أبي صُفرة في شرح مختصر صحيح البخاريّ. والله تعالى أعلم.
والحكمة أصلها ما يمنع الجهل والسفه، ومنه حكمة البعير، وكونها تملأ الطست استعارة تُفهِم أنّ المجعولَ في قلبه منها كثيرٌ شريف، وإلاّ فليست العلوم أجسامًا حتّى تملأ الطست. وقيل: إنّ القلب لمّا امتلأ حكمةً بعد غسله بملء الطست من ماء زمزم، قُدِّرت الحكمةُ بما كانت عنده، والله أعلم.