للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَهَذَا مُشْكل، فَإِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَدَنِيَّةٌ. وَسُؤَالُهُمْ أَنْ يَكُونَ الصَّفَا ذَهَبًا كَانَ بِمَكَّةَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَمَعْنَى الْآيَةِ أَنَّهُ يَقُولُ تَعَالَى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ} أَيْ: هَذِهِ فِي ارْتِفَاعِهَا وَاتِّسَاعِهَا، وَهَذِهِ فِي انْخِفَاضِهَا وَكَثَافَتِهَا وَاتِّضَاعِهَا (١) وَمَا فِيهِمَا مِنَ الْآيَاتِ الْمُشَاهَدَةِ الْعَظِيمَةِ مِنْ كَوَاكِبَ سَيَّارَاتٍ، وثوابتَ وَبِحَارٍ، وَجِبَالٍ وَقِفَارٍ وَأَشْجَارٍ وَنَبَاتٍ وَزُرُوعٍ وَثِمَارٍ، وَحَيَوَانٍ وَمَعَادِنَ وَمَنَافِعَ، مُخْتَلِفَةِ الْأَلْوَانِ وَالطَّعُومِ وَالرَّوَائِحِ وَالْخَوَاصِّ {وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} أَيْ: تَعَاقُبُهُمَا وتَقَارضهما الطُّولَ وَالْقِصَرَ، فَتَارَةً يطُول هَذَا وَيَقْصُرُ هَذَا، ثُمَّ يَعْتَدِلَانِ، ثُمَّ يَأْخُذُ هَذَا مِنْ هَذَا فَيَطُولُ الَّذِي كَانَ قَصِيرًا، وَيَقْصُرُ الَّذِي كَانَ طَوِيلًا وَكُلُّ ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (٢) ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {لأولِي الألْبَابِ} أَيِ: الْعُقُولِ التَّامَّةِ الذَّكِيَّةِ الَّتِي تُدْرِكُ الْأَشْيَاءَ بِحَقَائِقِهَا عَلَى جَلِيَّاتِهَا، وَلَيْسُوا كَالصُّمِّ البُكْم الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ [تَعَالَى] (٣) فِيهِمْ: {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ. وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يُوسُفَ:١٠٥، ١٠٦] .

ثُمَّ وَصَفَ تَعَالَى أُولِي الْأَلْبَابِ فَقَالَ: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} كَمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عِمْران بْنِ حُصَين، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "صَلِّ قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فَإِنْ لَم تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبِكَ (٤) (٥) أَيْ: لَا يَقْطَعُونَ ذِكْره فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِمْ بِسَرَائِرِهِمْ وَضَمَائِرِهِمْ وَأَلْسِنَتِهِمْ {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ} أَيْ: يَفْهَمُونَ مَا فِيهِمَا مِنَ الحكَم الدَّالَّةِ عَلَى عَظَمَةِ الْخَالِقِ وَقُدْرَتِهِ، وَعِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ، وَاخْتِيَارِهِ وَرَحْمَتِهِ.

وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيُّ: إِنِّي لأخرجُ مِنْ مَنْزِلِي، فَمَا يَقَعُ بَصَرِي عَلَى شَيْءٍ إِلَّا رَأَيْتُ لِلَّهِ عَلَي فِيهِ نِعْمَة، أوْ لِي فِيهِ عِبْرَة. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي كِتَابِ "التَّفَكُّرِ (٦) وَالِاعْتِبَارِ".

وَعَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: تَفَكُّر سَاعَة خَيْرٌ مِنْ قِيَامِ لَيْلَةٍ. وَقَالَ الفُضَيل: قَالَ الْحَسَنُ: الْفِكْرَةُ مِرْآة تُرِيكَ حَسنَاتك وَسَيِّئَاتِكَ. وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: الْفِكْرَةُ نُورٌ يَدْخُلُ قَلْبَكَ. وَرُبَّمَا تَمَثَّلَ بِهَذَا الْبَيْتِ:

إِذَا الْمَرْءُ كَانَتْ لَهُ فكْرَةٌ ... فِفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ عبرَة ...

وَعَنْ عِيسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَنَّهُ قَالَ: طُوبَى لِمَنْ كَانَ قِيلُه تَذَكُّرًا، وصَمْته تَفكُّرًا، ونَظَره عِبَرًا.

وَقَالَ لُقْمَانُ الْحَكِيمُ: إِنَّ طُولَ الْوَحْدَةِ ألْهَمُ لِلْفِكْرَةِ، وطولَ الفكْرة دَلِيلٌ عَلَى طَرْق بَابِ الْجَنَّةِ.

وَقَالَ وَهَبُ بْنُ مُنَبِّه: مَا طَالَتْ فِكْرَةُ امرِئ قَطُّ إِلَّا فَهِمَ، وَمَا (٧) فَهِمَ امْرُؤٌ قَطُّ إِلَّا عَلِمَ، وَمَا عَلِمَ امْرُؤٌ قَطُّ إلا عمل.


(١) في أ: "وكشافتها وإيضاعها".
(٢) في جـ، أ، و: "العليم".
(٣) زيادة من و.
(٤) في جـ، أ: "جنب".
(٥) صحيح البخاري برقم (١١١٥) .
(٦) في النسخ: "التوكل"، والصحيح ما أثبتناه كما ذكره الذهبي في سير أعلام النبلاء (١٣/٤٠٢) ومعجم مصنفات ابن أبي الدنيا الموجود بالظاهرية، وسيأتي في نهاية المقطع مضبوطا. انظر ص ١٨٩.
(٧) في ر: "ولا".

<<  <  ج: ص:  >  >>