للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

"خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ فِيهِ الشَّمْسُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، فِيهِ خُلِقَ آدَمُ، وَفِيهِ أُدْخِلَ الْجَنَّةَ، وَفِيهِ أُخْرِجَ مِنْهَا" رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ (١) .

وَقَالَ فَخْرُ الدِّينِ: اعْلَمْ أَنَّ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ تَهْدِيدًا عَظِيمًا عَنْ كُلِّ الْمَعَاصِي مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ مَنْ تَصَوَّرَ مَا جَرَى عَلَى آدَمَ بِسَبَبِ إِقْدَامِهِ عَلَى هَذِهِ الزَّلَّةِ الصَّغِيرَةِ كَانَ عَلَى وَجَلٍ شَدِيدٍ مِنَ الْمَعَاصِي، قَالَ الشَّاعِرُ:

يَا نَاظِرًا يَرْنُو بِعَيْنَيْ رَاقِدٍ وَمُشَاهِدًا لِلْأَمْرِ غَيْرَ مُشَاهِدِ ...

تَصِلُ الذُّنُوبَ إِلَى الذُّنُوبِ وَتَرْتَجِي ... دَرَجَ الْجِنَانِ وَنَيْلَ فَوْزِ الْعَابِدِ ...

أَنَسِيتَ رَبَّكَ حِينَ أَخْرَجَ آدَمًا ... مِنْهَا إِلَى الدُّنْيَا بِذَنْبٍ وَاحِدِ ...

قَالَ فَخْرُ الدِّينِ عَنْ فَتْحٍ الْمَوْصِلِيِّ أَنَّهُ قَالَ: كُنَّا قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَسَبَانَا إِبْلِيسُ إِلَى الدُّنْيَا، فَلَيْسَ لَنَا إِلَّا الْهَمُّ وَالْحُزْنُ حَتَّى نُرَدَّ إِلَى الدَّارِ الَّتِي أُخْرِجْنَا مِنْهَا. فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا كَانَتْ جَنَّةُ آدَمَ الَّتِي أُسْكِنَهَا فِي السَّمَاءِ كَمَا يَقُولُهُ الْجُمْهُورُ مِنَ الْعُلَمَاءِ، فَكَيْفَ يُمَكَّنُ إِبْلِيسُ مِنْ دُخُولِ الْجَنَّةِ، وَقَدْ طُرِدَ مِنْ هُنَالِكَ طَرْدًا قَدَرِيًّا، وَالْقَدَرِيُّ لَا يُخَالَفُ وَلَا يُمَانَعُ؟ فَالْجَوَابُ: أَنَّ هَذَا بِعَيْنِهِ اسْتَدَلَّ بِهِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ الْجَنَّةَ الَّتِي كَانَ فِيهَا آدَمُ فِي الْأَرْضِ لَا فِي السَّمَاءِ، وَقَدْ بَسَطْنَا هَذَا فِي أَوَّلِ كِتَابِنَا الْبِدَايَةُ وَالنِّهَايَةُ، وَأَجَابَ الْجُمْهُورُ بِأَجْوِبَةٍ، أَحَدُهَا: أَنَّهُ مُنِعَ مِنْ دُخُولِ الْجَنَّةِ مُكَرَّمًا، فَأَمَّا عَلَى وَجْهِ الرَّدْعِ وَالْإِهَانَةِ، فَلَا يَمْتَنِعُ؛ وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ: كَمَا جَاءَ فِي التَّوْرَاةِ أَنَّهُ دَخَلَ فِي فَمِ الْحَيَّةِ إِلَى الْجَنَّةِ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ: يَحْتَمِلُ أَنَّهُ وَسْوَسَ لَهُمَا وَهُوَ خَارِجُ بَابِ الْجَنَّةِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَحْتَمِلُ أَنَّهُ وَسْوَسَ لَهُمَا وَهُوَ فِي الْأَرْضِ، وَهُمَا فِي السَّمَاءِ، ذَكَرَهَا الزَّمَخْشَرِيُّ وَغَيْرُهُ. وَقَدْ أَوْرَدَ الْقُرْطُبِيُّ هَاهُنَا أَحَادِيثَ فِي الْحَيَّاتِ وَقَتْلِهِنَّ وَبَيَانِ حُكْمِ ذَلِكَ، فَأَجَادَ وَأَفَادَ (٢) .

{فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (٣٧) }

قِيلَ: إِنَّ هَذِهِ (٣) الْكَلِمَاتِ مُفَسَّرَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الْأَعْرَافِ: ٢٣] رُوِيَ هَذَا عَنْ مُجَاهِدٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَأَبِي الْعَالِيَةِ، وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، وَالْحَسَنِ، وَقَتَادَةَ، وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ القُرَظي، وَخَالِدِ بْنِ مَعْدان، وَعَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ السَّبِيعي، عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ، قَالَ: أَتَيْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ، فَسَأَلْتُهُ: [قُلْتُ] (٤) : مَا الْكَلِمَاتُ الَّتِي تَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ؟ قَالَ: عُلم [آدَمَ] (٥) شَأنَ الحج.


(١) صحيح مسلم برقم (٨٥٤) وسنن النسائي (٣/٨٩) .
(٢) تفسير القرطبي (١/٣١٣-٣١٧) .
(٣) في جـ، ط: "هؤلاء.
(٤) زيادة من طـ، ب، و.
(٥) زيادة من جـ.

<<  <  ج: ص:  >  >>