للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَثَمَّ أَبُو قِلابة، فَحَدَّثَ أَبُو قِلابة فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا لَعَنَ إِبْلِيسَ سَأَلَهُ النَّظرة فَقَالَ: وعِزَّتِك وَجَلَالِكَ لَا أَخْرُجُ مِنْ قَلْبِ ابْنِ آدمَ مَا دَامَ فِيهِ الرُّوحُ. فَقَالَ اللَّهُ: وَعِزَّتِي (١) لَا أَمْنَعُهُ التَّوْبَةَ مَا دَامَ فِيهِ الرُّوحُ.

وَقَدْ وَرَدَ هَذَا فِي حَدِيثٍ مَرْفُوعٍ، رَوَاهُ الْإِمَامُ أحمد في مسنده من طريق عمرو بن أَبِي عَمْرٍو وَأَبِي الْهَيْثَمِ العُتْوارِي كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "قَالَ إِبْلِيسُ: وعِزَّتِك لَا أزَالُ أُغْوِيهم مَا دَامَتْ أرْوَاحهُمْ فِي أَجْسَادِهِمْ. فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَعِزَّتِي وَجَلَالِي، لَا أَزَالُ (٢) أغْفِرُ لَهُمْ مَا اسْتَغْفَرُوني" (٣) .

فَقَدْ دَلَّتْ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ عَلَى أَنَّ مَنْ تَابَ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَهُوَ يَرْجُو الْحَيَاةَ، فَإِنَّ تَوْبَتَهُ مَقْبُولَةٌ [مِنْهُ] (٤) ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} فَأَمَّا مَتَى وَقَعَ الْإِيَاسُ مِنَ الْحَيَاةِ، وَعَايَنَ الْمَلَكَ، وحَشْرَجَتِ الرُّوحُ فِي الْحَلْقِ، وَضَاقَ بِهَا الصَّدْرُ، وَبَلَغَتِ الْحُلْقُومَ، وَغَرْغَرَتِ النَّفْسُ صَاعِدَةً فِي الغَلاصِم -فَلَا تَوْبَةَ مُتَقَبَّلَةٌ حِينَئِذٍ، وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ؛ وَلِهَذَا قَالَ [تَعَالَى] (٥) {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ} وَهَذَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ [وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ. فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا] (٦) } الْآيَتَيْنِ، [غَافِرٍ:٨٤، ٨٥] وَكَمَا حَكَمَ تَعَالَى بِعَدَمِ تَوْبَةِ أَهْلِ الْأَرْضِ إِذَا عَايَنُوا الشَّمْسَ طَالِعَةً مِنْ مَغْرِبِهَا كَمَا قَالَ [تَعَالَى] (٧) {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} الْآيَةَ [الْأَنْعَامِ:١٥٨] .

وَقَوْلُهُ: {وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} [الْآيَةَ] (٨) يَعْنِي: أَنَّ الْكَافِرَ إِذَا مَاتَ عَلَى كُفْرِهِ وَشِرْكِهِ لَا يَنْفَعُهُ نَدَمُهُ وَلَا تَوْبَتُهُ، وَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ فَدِيَةٌ وَلَوْ بِمَلْءِ الْأَرْضِ [ذَهَبًا] (٩) .

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ، وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: {وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} قَالُوا: نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الشِّرْكِ.

وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ ثَابِتِ بْنِ ثَوْبَانَ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ مَكْحُولٍ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ نُعَيْمٍ حَدَّثَهُ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ سَلْمَانَ: أَنَّ أَبَا ذَرٍّ حَدَّثَهُمْ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ عَبْدِه -أَوْ يَغْفِرُ لِعَبْدِهِ-مَا لَمْ يَقَعِ الحِجَاب". قِيلَ: وَمَا وُقُوع الْحِجَابِ؟ قَالَ: "أَنْ تَخرجَ النَّفْسُ وَهِيَ مُشْرِكة" (١٠) ؛ وَلِهَذَا قَالَ [تَعَالَى] (١١) {أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} أَيْ: موجعا شديدا مقيما.


(١) في أ: "عز وجل".
(٢) في جـ، ر، أ: "ولا أزال".
(٣) المسند (٣/٧٦) .
(٤) زيادة من أ.
(٥) زيادة من جـ، ر، أ.
(٦) زيادة من جـ، ر، أ.
(٧) زيادة من ر، وفي أ: "في قوله".
(٨) زيادة من أ.
(٩) زيادة من جـ، أ.
(١٠) المسند (٥/١٧٤) .
(١١) زيادة من أ.

<<  <  ج: ص:  >  >>