للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَافْتَرَقُوا ثَلَاثَ فِرَقٍ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: كَانَ اللَّهُ فِينَا مَا شَاءَ ثُمَّ صَعِدَ إِلَى السَّمَاءِ. وَهَؤُلَاءِ الْيَعْقُوبِيَةُ، وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: كَانَ فِينَا ابْنُ اللَّهِ مَا شَاءَ، ثُمَّ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ. وَهَؤُلَاءِ النُّسْطُورِيَّةُ، وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: كَانَ فِينَا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ مَا شَاءَ، ثُمَّ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ. وَهَؤُلَاءِ الْمُسْلِمُونَ، فَتَظَاهَرَتِ الْكَافِرَتَانِ عَلَى الْمُسْلِمَةِ، فَقَتَلُوهَا، فَلَمْ يَزَلِ الْإِسْلَامُ طَامِسًا حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنْ أَبِي كُرَيب، عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ، بِنَحْوِهِ (١) وَكَذَا ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ أَنَّهُ قَالَ لَهُمْ: أَيُّكُمْ يُلْقَى عَلَيْهِ شَبَهِي فيقتلَ مَكَانِي، وَهُوَ رَفِيقِي فِي الْجَنَّةِ؟

وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ القُمّي، عَنْ هَارُونَ بْنِ عَنْتَرَةَ، عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّه قَالَ: أُتِيَ عِيسَى وَعِنْدَهُ سَبْعَةَ عَشَرَ مِنَ الْحَوَارِيِّينَ فِي بَيْتٍ وَأَحَاطُوا بِهِمْ. فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ صَوَّرهم اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، كُلَّهُمْ عَلَى صُورَةِ عِيسَى، فَقَالُوا لَهُمْ: سَحَرْتُمُونَا. لَيَبْرُزَنَّ لَنَا عِيسَى أَوْ لَنَقْتُلَنَّكُمْ جَمِيعًا. فَقَالَ عِيسَى لِأَصْحَابِهِ: مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ مِنْكُمُ الْيَوْمَ بِالْجَنَّةِ؟ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ: أَنَا. فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ وَقَالَ: أَنَا عِيسَى -وَقَدْ صَوَّرَهُ اللَّهُ عَلَى صُورَةِ عِيسَى-فَأَخَذُوهُ وَقَتَلُوهُ وَصَلَبُوهُ. فَمِنْ ثَمَّ شُبّه لَهُمْ، فَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ قَتَلُوا عِيسَى، وَظَنَّتِ النَّصَارَى مِثْلَ ذَلِكَ أَنَّهُ عِيسَى، وَرَفَعَ اللَّهُ عِيسَى مِنْ يَوْمِهِ ذَلِكَ. وَهَذَا سِيَاقٌ غَرِيبٌ جِدًّا (٢) .قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَقَدْ رُوِيَ عَنْ وَهْبٍ نَحْوُ هَذَا الْقَوْلِ، وَهُوَ مَا حَدَّثَنِي بِهِ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الْكَرِيمِ، حَدَّثَنِي عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ مِعْقَل: أَنَّهُ سَمِعَ وَهْبًا يَقُولُ: إِنَّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ لَمَّا أَعْلَمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ خَارِجٌ مِنَ الدُّنْيَا، جَزِعَ مِنَ الْمَوْتِ وشَقَّ عَلَيْهِ، فَدَعَا الْحَوَارِيِّينَ فَصَنَعَ لَهُمْ طَعَامًا، فَقَالَ: احْضُرُونِي اللَّيْلَةَ، فَإِنَّ لِي إِلَيْكُمْ حَاجَةً. فَلَمَّا اجْتَمَعُوا إِلَيْهِ مِنَ اللَّيْلِ عَشَّاهم وَقَامَ يَخْدُمُهُمْ. فَلَمَّا فَرَغُوا مِنَ الطَّعَامِ أَخَذَ يَغْسِلُ أَيْدِيَهُمْ وَيُوَضِّئُهُمْ بِيَدِهِ، وَيَمْسَحُ أَيْدِيَهُمْ بِثِيَابِهِ، فَتَعَاظَمُوا ذَلِكَ وَتَكَارَهُوهُ، فَقَالَ: أَلَا مَنْ رَدَّ عليَّ شَيْئًا اللَّيْلَةَ مِمَّا أَصْنَعُ، فَلَيْسَ مِنِّي وَلَا أَنَا مِنْهُ. فَأَقَرُّوهُ، حَتَّى إِذَا فَرَغَ مِنْ ذَلِكَ قَالَ: أَمَّا مَا صَنَعْتُ بِكُمُ اللَّيْلَةَ، مِمَّا خَدَمْتُكُمْ عَلَى الطَّعَامِ، وَغَسَلْتُ أَيْدِيَكُمْ بِيَدِي، فَلْيَكُنْ لَكُمْ بِي أُسْوَةٌ، فَإِنَّكُمْ تَرَوْنَ أَنِّي خَيْرُكُمْ، فَلَا يتعظَّم بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ، وليبذلْ بَعْضُكُمْ نَفْسَهُ لِبَعْضٍ، كَمَا بَذَلْتُ نَفْسِي لَكُمْ. وَأَمَّا حَاجَتِي اللَّيْلَةَ الَّتِي أَسَتَعِينُكُمْ عَلَيْهَا فَتَدْعُونَ لِيَ اللَّهَ، وَتَجْتَهِدُونَ فِي الدُّعَاءِ أَنْ يُؤَخَّرَ أَجَلِي. فَلَمَّا نَصَبُوا أَنْفُسَهُمْ لِلدُّعَاءِ، وَأَرَادُوا أَنْ يَجْتَهِدُوا، أَخَذَهُمُ النَّوْمُ حَتَّى لَمْ يَسْتَطِيعُوا دُعَاءً، فَجَعَلَ يُوقِظُهُمْ وَيَقُولُ: سُبْحَانَ اللَّهِ! أَمَا تَصْبِرُونَ لِي لَيْلَةً وَاحِدَةً تُعِينُونَنِي فِيهَا؟ قَالُوا: وَاللَّهِ مَا نَدْرِي مَا لَنَا. لَقَدْ كُنَّا نَسْمُر فَنُكْثِرُ السَّمَرَ، وَمَا نُطِيقُ اللَّيْلَةَ سَمَرا، وَمَا نُرِيدُ دُعَاءً إِلَّا حِيلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ. فَقَالَ: يُذْهَب بِالرَّاعِي (٣) وَتُفَرَّقُ الغنمُ. وَجَعَلَ يَأْتِي بِكَلَامٍ نَحْوَ هَذَا ينعَي بِهِ نَفْسَهُ. ثُمَّ قَالَ: الحقَّ، ليَكْفُرن بِي أَحَدُكُمْ قَبْلَ أَنْ يَصِيحَ الدِّيكُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وليبيعنّي أحدكم بدراهم يسيرة، وليأكلن


(١) سنن النسائي الكبرى برقم (١١٥٩١) .
(٢) تفسير الطبري (٩/٣٦٨) ، وقد صوب قول وهب بن منبه مع أن الحافظ هنا استغربه. انظر: تفسير الطبري (٩/٣٧٤) .
(٣) في ر: "الراعي".

<<  <  ج: ص:  >  >>