للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

يُخْبِرُ تَعَالَى رَسُولَهُ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، أَنَّ فِي أَحْيَاءِ الْعَرَبِ مِمَّنْ حَوْلَ الْمَدِينَةِ مُنَافِقِينَ، وَفِي أَهْلِ الْمَدِينَةِ أَيْضًا مُنَافِقُونَ {مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ} أَيْ: مَرَنُوا وَاسْتَمَرُّوا عَلَيْهِ: وَمِنْهُ يُقَالُ: شَيْطَانٌ مَرِيدٌ وَمَارِدٌ، وَيُقَالُ: تَمَرَّدَ فُلَانٌ عَلَى اللَّهِ، أَيْ: عَتَا وَتَجَبَّرَ.

وَقَوْلُهُ: {لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} لَا يُنَافِي قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَلَوْ نَشَاءُ لأرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} الْآيَةَ [مُحَمَّدٍ:٣٠] ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ التَّوَسُّمِ فِيهِمْ بِصِفَاتٍ يُعْرَفُونَ بِهَا، لَا أَنَّهُ يَعْرِفُ جَمِيعَ مَنْ عِنْدَهُ مِنْ أَهْلِ النِّفَاقِ وَالرَّيْبِ عَلَى التَّعْيِينِ. وَقَدْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ فِي بَعْضِ مَنْ يُخَالِطُهُ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ نِفَاقًا، وَإِنْ كَانَ يَرَاهُ صَبَاحًا وَمَسَاءً، وَشَاهِدُ هَذَا بِالصِّحَّةِ مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ حَيْثُ قَالَ:

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ سَالِمٍ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ جُبَير بْنِ مُطْعِمٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ لَيْسَ لَنَا أَجْرٌ بِمَكَّةَ، فَقَالَ: لَتَأْتِيَنَّكُمْ أُجُورُكُمْ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي جُحر ثَعْلَبٍ وَأَصْغَى إليَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَأْسِهِ فَقَالَ: "إِنَّ فِي أَصْحَابِي مُنَافِقِينَ" (١)

وَمَعْنَاهُ: أَنَّهُ قَدْ يَبُوحُ بَعْضُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُرْجِفِينَ مِنَ الْكَلَامِ بِمَا لَا صِحَّةَ لَهُ، وَمِنْ مِثْلِهِمْ صَدَر هَذَا الْكَلَامُ الَّذِي سَمِعَهُ جُبَير بْنُ مُطْعِمٍ. وَتَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: {وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا} [التَّوْبَةَ:٧٤] أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ (٢) أَعْلَمَ حُذَيفة بِأَعْيَانِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ أَوْ خَمْسَةَ عَشَرَ مُنَافِقًا، وَهَذَا تَخْصِيصٌ لَا يَقْتَضِي أَنَّهُ اطَّلَعَ عَلَى أَسْمَائِهِمْ وَأَعْيَانِهِمْ كُلِّهِمْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَرَوَى الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَةِ "أَبِي عُمَرَ الْبَيْرُوتِيِّ" مِنْ طَرِيقِ هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ: حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا بْنُ جَابِرٍ، حَدَّثَنِي شَيْخُ بَيْرُوتَ يُكَنَّى أَبَا عُمَرَ، أَظُنُّهُ حَدَّثَنِي عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ؛ أَنَّ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ "حَرْمَلَةُ" أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: الْإِيمَانُ هَاهُنَا -وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى لِسَانِهِ -وَالنِّفَاقُ هَاهُنَا -وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى قَلْبِهِ وَلَمْ يَذْكُرِ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اللَّهُمَّ اجْعَلْ لَهُ لِسَانًا ذَاكِرًا، وَقَلْبًا شَاكِرًا، وَارْزُقْهُ حُبّي، وحبَّ مَنْ يُحِبُّنِي، وصَيِّر أَمْرَهُ إِلَى خَيْرٍ". فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهُ كَانَ لِي أَصْحَابٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَكُنْتُ رَأْسًا فِيهِمْ، أَفَلَا آتِيكَ بِهِمْ؟ قَالَ: "مَنْ أَتَانَا اسْتَغْفَرْنَا لَهُ، وَمَنْ أَصَرَّ عَلَى دِينِهِ فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِ، وَلَا تَخْرِقَنَّ عَلَى أَحَدٍ سِتْرًا" (٣)

قَالَ: وَكَذَا رَوَاهُ أَبُو أَحْمَدَ الْحَاكِمُ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ الْبَاغَنْدِيِّ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عَمَّارٍ، بِهِ.

وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ قَالَ: مَا بَالُ أقوام يتكلفون علم


(١) المسند (٤/٨٣) .
(٢) في أ: "صلى الله عليه وسلم".
(٣) انظر: مختصر تاريخ دمشق لابن منظور (٢٩/٧٦) .

<<  <  ج: ص:  >  >>