للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَكَذَلِكَ قَالَ مُجَاهِدٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ، وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ، وَقَتَادَةُ.

وَعَنْ عِكْرِمَةَ، وَطَاوُسٍ: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} يَعْنِي: الرِّيَاءَ.

وَقَالَ الضَّحَّاكُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} قَالَ: نِفَاقٌ {فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} قَالَ: نِفَاقًا، وَهَذَا كَالْأَوَّلِ.

وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} قَالَ: هَذَا مَرَضٌ فِي الدِّينِ، وَلَيْسَ مَرَضًا فِي الْأَجْسَادِ، وَهُمُ الْمُنَافِقُونَ. وَالْمَرَضُ: الشَّكُّ الَّذِي دَخْلَهُمْ فِي الْإِسْلَامِ {فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} قَالَ: زَادَهُمْ رِجْسًا، وَقَرَأَ: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ} [التَّوْبَةِ: ١٢٤، ١٢٥] قَالَ: شَرًّا إِلَى شَرِّهِمْ وَضَلَالَةً إِلَى ضَلَالَتِهِمْ.

وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، رَحِمَهُ اللَّهُ، حَسَنٌ، وَهُوَ الْجَزَاءُ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ، وَكَذَلِكَ قَالَهُ الْأَوَّلُونَ، وَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى أَيْضًا: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [مُحَمَّدٍ: ١٧] .

وَقَوْلُهُ {بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} وَقُرِئَ: "يُكَذِّبُونَ"، وَقَدْ كَانُوا مُتَّصِفِينَ بِهَذَا وَهَذَا، فَإِنَّهُمْ كَانُوا كَذَبَةٌ يُكَذِّبُونَ بِالْحَقِّ يَجْمَعُونَ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا. وَقَدْ سُئِلَ الْقُرْطُبِيُّ وَغَيْرُهُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ عَنْ حِكْمَةِ كَفِّهِ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، عَنْ قَتْلِ الْمُنَافِقِينَ مَعَ عِلْمِهِ بِأَعْيَانِ بَعْضِهِمْ، وَذَكَرُوا أَجْوِبَةً عَنْ ذَلِكَ مِنْهَا مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ: أَنَّهُ قَالَ لِعُمَرَ: "أَكْرَهُ أَنْ يَتَحَدَّثَ الْعَرَبُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ" (١) وَمَعْنَى هَذَا خَشْيَةَ أَنْ يَقَعَ بِسَبَبِ ذَلِكَ تَغَيُّرٌ لِكَثِيرٍ مِنَ الْأَعْرَابِ عَنِ الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ وَلَا يَعْلَمُونَ حِكْمَةَ قَتْلِهِ لَهُمْ، وَأَنَّ قَتْلَهُ إِيَّاهُمْ إِنَّمَا هُوَ عَلَى الْكُفْرِ، فَإِنَّهُمْ إِنَّمَا يَأْخُذُونَهُ بِمُجَرَّدِ مَا يَظْهَرُ لَهُمْ فَيَقُولُونَ: إِنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَهَذَا قَوْلُ عُلَمَائِنَا وَغَيْرِهِمْ كَمَا كَانَ يُعْطِي الْمُؤَلَّفَةَ قُلُوبُهُمْ مَعَ عِلْمِهِ بِشَرِّ اعْتِقَادِهِمْ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهِيَ طَرِيقَةُ أَصْحَابِ مَالِكٍ نَصَّ عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْجَهْمِ وَالْقَاضِي إِسْمَاعِيلُ وَالْأَبْهَرِيُّ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ. وَمِنْهَا: مَا قَالَ مَالِكٌ، رَحِمَهُ اللَّهُ: إِنَّمَا كَفَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْمُنَافِقِينَ لِيُبَيِّنَ لِأُمَّتِهِ أَنَّ الْحَاكِمَ لَا يَحْكُمُ بِعِلْمِهِ.

قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَقَدِ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَنْ بَكْرَةِ أَبِيهِمْ عَلَى أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَقْتُلُ بِعِلْمِهِ، وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي سَائِرِ الْأَحْكَامِ، قَالَ: وَمِنْهَا مَا قَالَ الشَّافِعِيُّ: إِنَّمَا مَنَعَ رسول الله صلى الله عليه وسلم من قَتْلِ الْمُنَافِقِينَ مَا كَانُوا يُظْهِرُونَهُ مِنَ الْإِسْلَامِ مَعَ الْعِلْمِ بِنِفَاقِهِمْ؛ لِأَنَّ مَا يُظْهِرُونَهُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ. وَيُؤَيِّدُ هَذَا قَوْلُهُ، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فِي الْحَدِيثِ الْمُجْمَعِ عَلَى صِحَّتِهِ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا: "أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ" (٢) . وَمَعْنَى هَذَا: أَنَّ مَنْ قَالَهَا جَرَتْ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ ظَاهِرًا، فَإِنْ كَانَ يَعْتَقِدُهَا وَجَدَ ثَوَابَ ذَلِكَ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، وَإِنْ لَمْ يَعْتَقِدْهَا لَمْ يَنْفَعْهُ فِي الْآخِرَةِ جَرَيَانُ الْحُكْمِ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا، وكونه كان


(١) صحيح البخاري برقم (٤٩٠٢) وصحيح مسلم برقم (٣٣١٤) .
(٢) صحيح البخاري برقم (٢٥) وصحيح مسلم برقم (٢٢) من حديث ابن عمرو رضي الله عنهما.

<<  <  ج: ص:  >  >>