للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا مُؤَمَّل، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ عَلَى أَصْحَابِهِ وَهُمْ حِلَق حِلق، فَقَالَ: "مَا لِي أَرَاكُمْ عِزِينَ؟ " (١) .

وَهَذَا إِسْنَادٌ جَيِّدٌ، وَلَمْ أَرَهُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْكُتُبِ السِّتَّةِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.

وَقَوْلُهُ: {أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ} أَيْ: أَيُطْمِعُ هَؤُلَاءِ -وَالْحَالَةُ هَذِهِ-مِنْ فِرَارِهِمْ عَنِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنِفَارِهِمْ عَنِ الْحَقِّ -أَنْ يَدْخُلُوا جَنَّاتِ النَّعِيمِ؟ كَلَّا بَلْ مَأْوَاهُمُ الْجَحِيمُ.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُقَرِّرًا لِوُقُوعِ الْمَعَادِ وَالْعَذَابِ بِهِمُ الَّذِي أَنْكَرُوا كَوْنَهُ وَاسْتَبْعَدُوا وُجُودَهُ، مُسْتَدِلًّا عَلَيْهِمْ بِالْبُدَاءَةِ الَّتِي الْإِعَادَةُ أَهْوَنُ مِنْهَا وَهُمْ مُعْتَرِفُونَ بِهَا، فَقَالَ {إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ} أَيْ: مِنَ الْمَنِيِّ الضَّعِيفِ، كَمَا قَالَ: {أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} [الْمُرْسَلَاتِ: ٢٠] . وَقَالَ: {فَلْيَنْظُرِ الإنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ} [الطَّارِقِ: ٥ -١٠] .

ثُمَّ قَالَ: {فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ} أي: الذي خلق السموات وَالْأَرْضَ، وَجَعَلَ مَشْرِقًا وَمَغْرِبًا، وَسَخَّرَ الْكَوَاكِبَ تَبْدُو مِنْ مَشَارِقِهَا وَتَغِيبُ فِي مَغَارِبِهَا. وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ: لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا يَزْعُمُونَ أَنْ لَا مَعَادَ وَلَا حِسَابَ، وَلَا بَعْثَ وَلَا نُشُورَ، بَلْ كُلُّ ذَلِكَ وَاقِعٌ وَكَائِنٌ لَا مَحَالَةَ. وَلِهَذَا أَتَى بِ "لَا" فِي ابْتِدَاءِ الْقَسَمِ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ الْمُقْسَمَ عَلَيْهِ نَفْيٌ، وَهُوَ مَضْمُونُ الْكَلَامِ، وَهُوَ الرَّدُّ عَلَى زَعْمِهِمُ الْفَاسِدِ فِي نَفْيِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَقَدْ شَاهَدُوا مِنْ عَظِيمِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى مَا هُوَ أَبْلَغُ مِنْ إقامة القيامة، وهو خلق السموات وَالْأَرْضِ، وَتَسْخِيرُ مَا فِيهِمَا مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ وَالْجَمَادَاتِ، وَسَائِرِ صُنُوفِ الْمَوْجُودَاتِ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} [غَافِرٍ: ٥٧] وَقَالَ تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الْأَحْقَافِ: ٣٣] . وَقَالَ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيمُ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: ٨١، ٨٢] . وَقَالَ هَاهُنَا: {فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ} أَيْ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ نُعِيدُهُمْ بِأَبْدَانٍ خَيْرٍ مِنْ هَذِهِ، فَإِنَّ قُدْرَتَهُ صَالِحَةٌ لِذَلِكَ، {وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} أَيْ: بِعَاجِزِينَ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَيَحْسَبُ الإنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} [الْقِيَامَةِ: ٣، ٤] . وَقَالَ تَعَالَى: {نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الْوَاقِعَةِ: ٦، ٦١] .

وَاخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ {عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ} أَيْ: أُمَّةً تُطِيعُنَا وَلَا تَعْصِينَا وَجَعَلَهَا، كَقَوْلِهِ: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [مُحَمَّدٍ: ٣٨] . والمعنى الأول أظهر لدلالة


(١) تفسير الطبري (٢٩/٥٤) .

<<  <  ج: ص:  >  >>