للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

{وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا} [الْفُرْقَانِ: ١٣] .

وَقَوْلُهُ: {كِتَابٌ مَرْقُومٌ} لَيْسَ تَفْسِيرًا لِقَوْلِهِ: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ} وَإِنَّمَا هُوَ تَفْسِيرٌ (١) لِمَا كُتِبَ لَهُمْ مِنَ الْمَصِيرِ إِلَى سِجِّينٍ، أَيْ: مَرْقُومٌ مَكْتُوبٌ مَفْرُوغٌ مِنْهُ، لَا يُزَادُ فِيهِ أَحَدٌ وَلَا يُنْقَصُ مِنْهُ أَحَدٌ؛ قَالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ.

ثُمَّ قَالَ: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} أَيْ: إِذَا صَارُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى مَا أَوْعَدَهُمُ اللَّهُ مِنَ السَّجن وَالْعَذَابِ الْمُهِينِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى قَوْلِهِ: {وَيْلٌ} بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ، وَأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ ذَلِكَ (٢) الْهَلَاكُ وَالدَّمَارُ، كَمَا يُقَالُ: وَيْلٌ لِفُلَانٍ. وَكَمَا جَاءَ فِي الْمُسْنَدِ وَالسُّنَنِ مِنْ رِوَايَةِ بَهْز بْنِ حَكِيمِ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ حَيَدة، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَيْلٌ لِلَّذِي يُحَدِّث فَيَكْذِبُ، ليضحِكَ النَّاسَ، وَيْلٌ لَهُ، وَيْلٌ لَهُ" (٣) .

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُفَسِّرًا لِلْمُكَذِّبِينَ الْفُجَّارِ الْكَفَرَةِ: {الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ} أَيْ: لَا يُصَدِّقُونَ بِوُقُوعِهِ، وَلَا يَعْتَقِدُونَ كَوْنَهُ، وَيَسْتَبْعِدُونَ أَمْرَهُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ} أَيْ: مُعْتَدٍ فِي أَفْعَالِهِ؛ مِنْ تَعَاطِي الْحَرَامِ وَالْمُجَاوَزَةِ فِي تَنَاوُلِ الْمُبَاحِ وَالْأَثِيمِ (٤) فِي أَقْوَالِهِ: إِنْ حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِنْ وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِنْ خَاصَمَ فَجَرَ.

وَقَوْلُهُ: {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ} أَيْ: إِذَا سَمِعَ كَلَامَ اللَّهِ مِنَ الرَّسُولِ، يُكَذِّبُ بِهِ، وَيَظُنُّ بِهِ ظَنَّ السَّوْءِ، فَيَعْتَقِدُ أَنَّهُ مُفْتَعَلٌ مَجْمُوعٌ مِنْ كُتُبِ الْأَوَائِلِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنزلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ} [النَّحْلِ: ٢٤] ، وَقَالَ: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلا} [الْفُرْقَانِ: ٥] ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} أَيْ: لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا زَعَمُوا وَلَا كَمَا قَالُوا، إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، بَلْ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ وَوَحْيُهُ وَتَنْزِيلُهُ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنَّمَا حَجَبَ قُلُوبَهُمْ عَنِ الْإِيمَانِ بِهِ مَا عَلَيْهَا مِنَ الرَّيْن الَّذِي قَدْ لَبِسَ قُلُوبَهُمْ مِنْ كَثْرَةِ الذُّنُوبِ وَالْخَطَايَا؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} وَالرَّيْنُ يَعْتَرِي قلوبَ الْكَافِرِينَ، وَالْغَيْمُ لِلْأَبْرَارِ، وَالْغَيْنُ لِلْمُقَرَّبِينَ.

وَقَدْ رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ طُرُقٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلان، عَنِ الْقَعْقَاعِ بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا أَذْنَبَ ذَنْبًا كَانَتْ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ فِي قَلْبِهِ، فَإِنْ تَابَ مِنْهَا صُقِلَ قَلْبُهُ، وَإِنْ زَادَ زَادَتْ، فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ: {كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (٥) .

وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَلَفْظُ النَّسَائِيِّ: "إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا أَخْطَأَ خَطِيئَةً نُكِت فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ، فَإِنْ هُوَ نَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ وَتَابَ صُقِل قَلْبُهُ، فَإِنْ عَادَ زِيدَ فِيهَا حَتَّى تَعْلُوَ قَلْبَهُ، فَهُوَ الرَّانُ الَّذِي قال


(١) في م: "تقرير".
(٢) في أ: "ذلك أنه".
(٣) المسند (٥/٥،٧) وسنن أبي داود برقم (٤٩٩٠) وسنن الترمذي برقم (٢٣١٥) وسنن النسائي الكبرى برقم (١١٦٥٥) .
(٤) في أ: "والإثم".
(٥) تفسير الطبري (٣٠/٦٢) وسنن الترمذي برقم (٣٣٣٤) وسنن النسائي الكبرى برقم (١١٦٥٨) وسنن ابن ماجة برقم (٤٢٤٤) .

<<  <  ج: ص:  >  >>