للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

مِنْ مُلُوكِ الْيُونَانِ، يُقَالُ لَهُ: قُسْطَنْطِينُ، فَدَخَلَ فِي دِينِ النَّصْرَانِيَّةِ، قِيلَ: حِيلَةٌ لِيُفْسِدَهُ، فَإِنَّهُ كَانَ فَيْلَسُوفًا، وَقِيلَ: جَهْلَا مِنْهُ، إِلَّا أَنَّهُ بَدل لَهُمْ دِينَ الْمَسِيحِ وَحَرَّفَهُ، وَزَادَ فِيهِ وَنَقَصَ مِنْهُ، وَوُضِعَتْ لَهُ الْقَوَانِينُ وَالْأَمَانَةُ الْكَبِيرَةُ -الَّتِي هِيَ الْخِيَانَةُ الْحَقِيرَةُ-وَأُحِلَّ فِي زَمَانِهِ لَحْمُ الْخِنْزِيرِ، وصَلّوا لَهُ إِلَى الْمَشْرِقِ (١) وَصَوَّرُوا لَهُ الْكَنَائِسَ، وَزَادُوا فِي صِيَامِهِمْ عَشَرَةَ أَيَّامٍ مِنْ أَجْلِ ذَنْبٍ ارْتَكَبَهُ، فِيمَا يَزْعُمُونَ. وَصَارَ دِينُ الْمَسِيحِ (٢) دِينَ قُسْطَنْطِينَ إِلَّا أَنَّهُ بَنَى لهم من الكنائس والمعابد والصوامع والديارت مَا يَزِيدُ عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفَ مَعْبَدٍ، وَبَنَى الْمَدِينَةَ الْمَنْسُوبَةَ إِلَيْهِ، وَاتَّبَعَهُ (٣) الطَّائِفَةُ المَلْكِيَّة مِنْهُمْ. وَهُمْ فِي هَذَا كُلُّهُ قَاهِرُونَ لِلْيَهُودِ، أيَّدهم (٤) اللَّهُ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ أَقْرَبُ إِلَى الْحَقِّ منهم، وإن كان الجميع كفار، عَلَيْهِمْ لَعَائِنُ اللَّهِ.

فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَانَ مَنْ آمَنَ بِهِ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْحَقِّ -كَانُوا هُمْ أَتْبَاعَ كُل نَبِيٍّ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ-إِذْ قَدْ صَدَّقُوا الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ، خَاتَمَ الرُّسُلِ، وَسَيِّدَ وَلَدِ آدَمَ، الَّذِي دَعَاهُمْ إِلَى التَّصْدِيقِ بِجَمِيعِ الْحَقِّ، فَكَانُوا (٥) أَوْلَى بِكُلِّ نَبِيٍّ مِنْ أُمَّتِهِ، الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ عَلَى مِلَّتِهِ وَطَرِيقَتِهِ، مَعَ مَا قَدْ حَرّفوا وَبَدَّلُوا.

ثُمَّ لَوْ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لَكَانَ قَدْ نَسَخَ اللَّهُ بِشَرِيعَتِهِ (٦) شَرِيعَةَ جَمِيعِ الرُّسُلِ بِمَا بَعَثَ بِهِ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الدِّينِ الْحَقِّ، الَّذِي لَا يُغَيَّرُ وَلَا يُبَدَّلُ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ، وَلَا يَزَالُ قَائِمًا مَنْصُورًا ظَاهِرًا عَلَى كُلِّ دِينٍ. فَلِهَذَا فَتَحَ اللَّهُ لِأَصْحَابِهِ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا، وَاحْتَازُوا (٧) جَمِيعَ الْمَمَالِكِ، وَدَانَتْ لَهُمْ جميعُ الدُّوَلِ، وَكَسَرُوا كِسْرَى، وقَصروا قَيْصَرَ، وَسَلَبُوهُمَا كُنُوزَهما، وَأُنْفِقَتْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، كَمَا أَخْبَرَهُمْ بِذَلِكَ نَبِيُّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ، عَزَّ وَجَلَّ، فِي قَوْلِهِ: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا} الْآيَةَ [النُّورِ: ٦٥] وَلِهَذَا (٨) لَمَّا كَانُوا هُمُ الْمُؤْمِنِينَ بِالْمَسِيحِ حَقًّا (٩) سَلَبُوا النَّصَارَى بِلَادَ الشَّامِ وأَجْلَوهم إِلَى الروم، فلجؤوا إِلَى مَدِينَتِهِمُ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ، وَلَا يَزَالُ الْإِسْلَامُ وَأَهْلُهُ فَوْقَهُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَقَدْ أَخْبَرَ الصَّادِقُ المصدوق أمَّته بأن آخرهم سيفتحون القسطنطينية، ويستفيؤون (١٠) مَا فِيهَا مِنَ الْأَمْوَالِ، وَيَقْتُلُونَ الرُّومَ مَقْتلة عَظِيمَةً جِدًّا، لَمْ يَرَ النَّاسُ مِثْلَهَا وَلَا يَرَوْنَ بَعْدَهَا نَظِيرَهَا، وَقَدْ جَمَعْتُ فِي هَذَا جُزْءًا مُفْرَدًا. وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ} أَيْ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ {فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ. فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} وَكَذَلِكَ فَعَلَ تَعَالَى (١١) بِمَنْ كَفَرَ بِالْمَسِيحِ مِنَ الْيَهُودِ، أَوْ غَلَا فِيهِ وَأَطْرَاهُ مِنَ النَّصَارَى؛ عَذبهم فِي الدُّنْيَا بِالْقَتْلِ وَالسَّبْيِ وأخْذ الْأَمْوَالِ وَإِزَالَةِ الْأَيْدِي عَنِ


(١) في ر: "الشرق".
(٢) في أ: "عيسى".
(٣) في أ: "واتبعته".
(٤) في ر: "أيديهم".
(٥) في جـ، أ: "وكانوا".
(٦) في جـ: "شريعة". وفي ر: "شريعته".
(٧) في ر، و: "واختاروا".
(٨) في أ: "فلهذا".
(٩) في و: "حقا بالمسيح".
(١٠) في أ: "ويستلبون".
(١١) في ر: "تعالى فعل".

<<  <  ج: ص:  >  >>