للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

فإن قيل: كيف شغل النبي صلى الله عليه وسلم ذمَّته بدين، وقد قال: (إياكم والدَّين، فإنه شين، الدَّين هَمٌّ بالليل، ومذلة بالنهار) (١) وقد كان كثيرًا ما يتعوَّذ منه، حتى قيل له: ما أكثر ما تستعيذ من المغرم. فقال: (إن الرَّجل إذا غرم حدَّث فكذب، ووعد فأخلف) (٢). لا يقال: إنما استقرض عند الحاجة والضرورة؛ لأنا نقول: لم يكن في ضرورة إلى ذلك، فإن الله تعالى خيَّره بين أن يجعل له بطحاء مكة ذهبا، كما رواه الترمذي (٣) من حديث أبي أمامة، واستحسنه؛ ومن كانت هذه حاله لم يكن في ضرورة، ولا حاجة. ولذلك قال الله تعالى له: {وَوَجَدَكَ عَائِلا فَأَغنَى}

قلت: أما الأخذ بالدَّين عند الحاجة، وقصد الأداء عند الوجدان: فلا يختلف في جوازه. وقد يجب في بعض الأوقات عند الضرورات المتعينة. وأما النهي عن أخذه -إن صحَّ -: فإنما ذلك لمن لم تدعه إليه حاجة، لما يطرأ من تحمله من الأمور التي ذكرتها، من الإذلال، والمطالبة، وما يخاف من الكذب في الحديث، والإخلاف في الوعد. وقد عصم الله نبينا صلى الله عليه وسلم من ذلك كله، فلم يحوجه إلى شيء من ذلك، ولا أجراه عليه.

وأما قولهم: إنه لم يكن في ضرورة؛ لأن الله خيَّره. فجوابه: إن الله تعالى لما خيَّره، فاختار أن يجوع ثلاثًا، ويشبع يومًا؟ أجرى الله تعالى عليه ما اختاره لنفسه، وما أشار إليه به صفيَّه، ونصيحه جبريل صلى الله عليهما وسلم، فسلك الله تعالى به من ذلك أعلى السبيل، ليصبر على المشقات والشدائد، كما صبر أولو العزم من الرسل، ولينال أعلى المقامات


(١) رواه البيهقي في شعب الإيمان (٥٥٥٤) دون قوله: "فإنه شين". ورواه مالك في الموطأ (٢/ ٧٧٠) بلفظ: "إياكم والدين؛ فإن أوَّله همٌّ، وآخِرَهُ حَرْبٌ".
(٢) رواه أحمد (٦/ ٨٨ - ٨٩)، والبخاري (٨٣٢) و (٣٣٩٧)، ومسلم (٥٨٠/ ١٠٩)، وأبو داود (٨٨٠)، والترمذي (٣٤٩٥)، والنسائي (٣/ ٥٦)، وابن ماجه (٣٨٣٨).
(٣) رواه الترمذي (٢٣٤٧).

<<  <  ج: ص:  >  >>