المباح قل ما يقع في الشريعة، وإنما يوجد فيها بمعنى الواجب، والندب. فإن اقترن به (على) أو ما في معناها؛ ظهر فيه قصد الوجوب. وإن لم يقترن به ذلك؛ كان محتملًا للأمرين، كما قد جاء في هذا الحديث. وعلى هذا: فلا حجة لداود في التمسك بحق الذي في هذا الحديث على وجوب الوصية؛ لأنه لم يقترن به قرينة تزيل إجماله، فإن أبى إلا دعوى ظهوره قابلناه بما قاله بعض أصحابنا في هذا الحق: إنه قد اقترن به ما يدلّ على الندب. وهو إضافته للمسلم، وتعليق الوصية على الإرادة في قوله:(ما حق امرئ مسلم له شيء يريد أن يوصي فيه). واقتران مثل هذا يقوِّي إرادة الندب. ثم لو سلمنا: أن ظاهره الوجوب فنقول بموجبه، فيمن كانت عليه حقوق للناس يخاف ضياعها عليهم، أو كانت له حقوق عند أناس يخاف تلفها على الورثة، فهذا تجب عليه الوصية. ولا يختلف فيه إذا خاف ضياعها بسبب الموت.
وإذا تقرر هذا؛ فاعلم: أن الوصية في أول الإسلام كانت واجبة للوالدين والأقربين قبل نزول المواريث، كما قال تعالى:{كُتِبَ عَلَيكُم إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ المَوتُ إِن تَرَكَ خَيرًا الوَصِيَّةُ لِلوَالِدَينِ وَالأَقرَبِينَ بِالمَعرُوفِ حَقًّا عَلَى المُتَّقِينَ} وهي بمجموع قرائنها نصٌّ في وجوب الوصية لمن ذكر فيها، ثم: إنها بعد ذلك نسخت. واختلف في ناسخها. فقيل: آية المواريث. وفيه إشكال؛ إذ لا تعارض بين أن يجمع بينهما، فيكون للقرابة أخذ المال بالوصية عن المورث، وبالميراث إن لم يوص، أو ما بقي بعد الوصية، لكن هذا قد منع الإجماع منه. وهو خلاف نص قوله صلى الله عليه وسلم:(إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، ألا لا وصيه لوارث)(١). فإذًا آية المواريث لم تستقل بنسخ آية الوصية، بل بضميمةٍ أخرى، وهي السُّنَّة المذكورة، ولذلك قال بعض علمائنا: إن نسخ الوصية للقرابة إنما كان بالسُّنة المذكورة، غير أنه يرد عليه: أن هذا نسخ القرآن بخبر الواحد.
(١) رواه أحمد (٤/ ٢٣٨ و ٥/ ٢٦٧)، وأبو داود (٢٨٧٠ و ٣٥٦٥)، والترمذي (٢١٢٠ و ٢١٢١)، والنسائي (٦/ ٢٤٧)، وابن ماجه (٢٧١٣ و ٢٧١٤).