الأول فينبغي لنا أن نبحث عنها حتى نتبيَّنها ونعرف وجه مناسبتها لهذا الوعيد الشديد. وإن لم يكن لها مدخل في تلك القضية لم يلق بحكمة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا ببلاغته، ولا ببيانه، أن يذكر وعيدًا شديدًا في قضية ذات أحوال وأوصاف متعددة، ويقرن ذلك الوعيد بتلك القصَّة، وهو يريد: أن ذلك الوعيد إنَّما هو لأجل شيء لم يذكره هو، ولا جرى له ذكر من غيره. ثمَّ إن المقول له ذلك قد فهم: أن ذلك إنما كان لأمر جرى في تلك القصة، ولذلك قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: تقول ذلك، وقد أخذته بأمرك؟ ! ولو كان كما قاله هذا القائل؛ لقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: إنَّما قلت ذلك للمعصية التي فعلت، أو: الحالة التي أنت عليها، لا لهذا، ولما كان يسكت عن ذلك، ولبادر لبيانه في تلك الحال؛ لأنَّ الحاجة له داعية، والنصيحة والبيان واجبان عليه - صلى الله عليه وسلم -. والله تعالى أعلم.
الثالث: أن أبا داود (١) روى هذا الحديث من طريق أبي هريرة وقال فيه: قتل رجل على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرفع ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فدفعه إلى ولي المقتول. فقال القاتلُ: يا رسول الله! والله ما أردت قتله! فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للولي:(أما إنَّه إن كان صادقًا ثمَّ قتلته دخلت النار) فحاصله: أن هذا المعترف بالقتل زعم أنه لم يرد قتله، وحلف عليه، فكان القتل خطأ، فكأن النبي - صلى الله عليه وسلم - خاف أن يكون القاتل صدق فيما حلف عليه، وأن القاتل يعلم ذلك؛ لكن سلمه له بحكم إقراره بالعمد، ولا شاهد يشهد له بالخطأ. ومع ذلك فتوقَّع صدقَهُ، فقال: إن قتلته دخلت النَّار. فكأنه قال: إن كان صادقًا وعلمت أنت صدقه، ثمَّ قتلته فأنت في النار. وهذا - على ما فيه من التكلُّف - يبطله قوله:(القاتل والمقتول في النار)، فسوَّى بينهما في الوعيد. فلو كان القاتلُ مُخطِئًا لما استحق بذلك النَّار، ولَمَا باء بإثمِه وإثم صاحبه؛ فإن المخطئ لا يكون آثِمًا، ولا يتحمَّل إثمَ من أخطأ عليه.