وَعَصَينَا؟ ! بَل قُولُوا: سَمِعنَا وَأَطَعنَا، فأقرَّهم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - على ما فهموه، وبيَّن لهم أنَّ لله تعالى أن يُكلِّفَ عبادَهُ بما يطيقونَهُ وبما لا يطيقونه، ونهاهم عن أن يقَعَ لهم شيءٌ مما وقَعَ لضُلَاّلِ أهل الكتاب مِنَ المخالفة، وأمَرَهُم بالسَّمعِ والطاعةِ، والتسليمِ لأمر الله تعالى على ما فهموه، فسلَّم القومُ لذلك وأذعنوا، ووطَّنوا أنفسهم على أنَّهم كُلِّفُوا في الآية بما لا يطيقونَهُ، واعتقدوا ذلك، فقد عملوا بمقتضى ذلك العمومِ، وثبَتَ ووَرَدَ، فإن قدِّر رافعٌ لشيء منه، فذلك الرَّفعُ نسخٌ لا تخصيص.
وعلى هذا: فقولُ الصحابي: فَلَمَّا فَعَلُوا نَسَخَهَا اللهُ على حقيقة النسخ، لا على جهة التخصيص؛ خلافًا لمن لم يَظهَر له ما ذكرناه، وهم كثيرٌ من المتكلِّمين على هذا الحديث، مِمَّن رأى أنَّ ذلك من باب التخصيص، لا مِن باب النسخ، وتأوَّلوا قولَ الصحابيِّ: إنَّه نَسخٌ؛ على أنَّه أراد بالنَّسخِ التخصيصَ، وقال: إنَّهم كانوا لا يفرِّقون بين النسخ والتخصيص، وقد كُنتُ على ذلك زمانًا إلى أن ظَهَرَ لي ما ذكرتُهُ، فتأمَّلهُ؛ فإنَّه الصحيح، إن شاء الله تعالى.
و(قوله: إِنَّهُم - يعني: الصحابةَ إنهم - كانوا لا يُفرِّقون بين النسخ والتخصيص) إن أراد به: أنَّهم لم ينصُّوا على الفَرقِ فمسلَّم، وكذلك أكثرُ مسائلِ عِلمِ الأصول، بل كله؛ فإنَّهم لم ينصُّوا على شيء منها، بل فرَّعوا عليها، وعَمِلُوا على مقتضاها، من غير عبارةٍ عنها ولا نُطقٍ بها، إلى أن جاء مَن بعدهم، ففَطنُوا لذلك وعبَّروا عنه، حتى صنَّفوا فيه التصانيفَ المعروفة، وَأَوَّلُهُم في ذلك الشافعيُّ - رحمه الله - فيما علمنا. وإن أراد بذلك: أنَّهم لم يكونوا يَعرِفُونَ الفرقَ بين النسخ والتخصيص (١)، ولا عَمِلُوا عليه: فقد نسبهم إلى ما يستحيلُ عليهم؛ لثقابةِ أذهانهم،