والعامة، وأما الأولياء وأهل الخصوص فلا يحتاجون إلى تلك النصوص، بل: إنما يراد منهم ما يقع في قلوبهم، ويحكم عليهم بما يغلب عليهم من خواطرهم. قالوا: وذلك لصفاء قلوبهم عن الأكدار، وخلوّها عن الأغيار، فتتجلى لهم العلوم الإلهية، والحقائق الربانية، فيقفون على أسرار الكائنات، ويعلمون أحكام الجزئيات، فيستغنون بها عن أحكام الشرائع والكليات، كما اتَّفق للخضر، فإنَّه استغنى بما تجلى له من تلك العلوم عما كان عند موسى من تلك الفهوم. وقد جاء فيما ينقلون: استفت قلبك وإن أفتاك المفتون.
قلت: وهذا القول زندقة، وكفر يُقتل قائله، ولا يستتاب، لأنَّه إنكار ما علم من الشرائع، فإنَّ الله تعالى قد أجرى سُنَّته، وأنفذ حكمته، فإنَّ أحكامه لا تعلم إلا بواسطة رسله السفراء بينه، وبين خلقه، وهم المبلغون عنه رسالاته وكلامه، المبينون شرائعه وأحكامه، اختارهم لذلك وخصَّهم بما هنالك، كما قال الله تعالى:{اللَّهُ يَصطَفِي مِنَ المَلائِكَةِ رُسُلا وَمِنَ النَّاسِ} وقال: {اللَّهُ أَعلَمُ حَيثُ يَجعَلُ رِسَالَتَهُ} وقال تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الكِتَابَ بِالحَقِّ لِيَحكُمَ بَينَ النَّاسِ فِيمَا اختَلَفُوا فِيهِ} وأمر بطاعتهم في كل ما جاؤوا به، وأخبر: أن الهدى في طاعتهم، والاقتداء بهم، في غير موضع من كتابه، وعلى ألسنة رسله، كقوله تعالى:{وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ}، وكقوله:{وَمَا أَرسَلنَا مِن رَسُولٍ إِلا لِيُطَاعَ بِإِذنِ اللَّهِ} وقال: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقتَدِهِ} وقال: {وَإِن تُطِيعُوهُ تَهتَدُوا} وقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما، كتاب الله، وسُنَّة نبيه (١). ومثل هذا لا يُحصى كثرة.
(١) رواه مالك في الموطأ (٣/ ٨٩٩) بلاغًا، والحاكم في المستدرك (١/ ٩٣) عن أبي هريرة بسند حسن، فيتقوَّى به.