مباحًا للمنتصر - فعليه إثم من حيث هو سب، لكنه عائد إلى الجاني الأول، لأنَّه هو الذي أحوج المنتصر إليه وتسبب فيه، فيرجع إثمه عليه، ويسلم المنتصر من الإثم، لأنَّ الشرع قد رفع عنه الإثم والمؤاخذة، لكن ما لم يكن من المنتصر عدوان إلى ما لا يجوز له، كما قال: ما لم يعتد المظلوم أي: ما لم يجاوز ما سُب به إلى غيره، إما بزيادة سب آخر أو بتكرار مثل ذلك السب، وذلك أن المباح في الانتصار: أن يرد مثل ما قال الجاني، أو يقاربه، لأنَّه قصاص، فلو قال له: يا كلب - مثلا - فالانتصار أن يرد عليه بقوله: بل هو الكلب، فلو كرر هذا اللفظ مرتين أو ثلاثا لكان متعديا بالزائد على الواحدة، فله الأولى، وعليه إثم الثانية، وكذلك لو رد عليه بأفحش من الأولى، فيقول له: خنزير - مثلا - كان كل واحد منهما مأثوما، لأنَّ كلا منهما جار على الآخر، وهذا كله مقتضى قوله تعالى:{فَمَنِ اعتَدَى عَلَيكُم فَاعتَدُوا عَلَيهِ بِمِثلِ مَا اعتَدَى عَلَيكُم} وقوله: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثلُهَا}
وكل ما ذكرناه من جواز الانتصار إنما هو فيما إذا لم يكن القول كذبا أو بهتانا، فلا يجوز أن يتكلم بذلك لا ابتداء ولا قصاصا، وكذلك لو كان قذفا، فلو رده كان كل واحد منهما قاذفا للآخر، وكذلك لو سب المبتدئ أبا المسبوب أو جده، لم يجز له أن يرد ذلك، لأنَّه سب لمن لم يجنِ عليه، فيكون الرد عدوانا لا قصاصا.
قال بعض علمائنا: إنما يجوز الانتصار فيما إذا كان السب مما يجوز سب المرء به عند التأديب كالأحمق، والجاهل، والظالم، لأنَّ أحدا لا ينفك عن بعض هذه الصفات إلا الأنبياء والأولياء، فهذا إذا كافأه بسبه فلا حرج عليه ولا إثم، وبقي الإثم على الأول بابتدائه وتعرضه لذلك.
تنبيه: ظاهر قوله تعالى: {وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعدَ ظُلمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيهِم مِن سَبِيلٍ} أن الانتصار مباح، وعلى ذلك يدلّ الحديث المذكور، لكن قوله تعالى:{وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ البَغيُ هُم يَنتَصِرُونَ} مدح من الله تعالى للمنتصر، والمباح لا يمدح عليه، فاختلف العلماء في ذلك، فقال السدي: إنما