و(قوله: لما قضى الله الخلق: كتب في كتاب عنده (١)، على نفسه) أي: لما أظهر قضاءه، وأبرز أمره لمن شاء، أظهر كتابا في اللوح المحفوظ، أو فيما شاءه، فقضاه خبر حق، ووعد صدق: إن رحمتي تغلب غضبي أي: تسبقه وتزيد عليه. وقد تقدَّم القول في غضب الله ورضاه، وأن ذينك يرجعان إلى إرادته، وإلى متعلقها من إيصال المنافع والألطاف إلى المرحوم، أو إيصال المضار والانتقام للمغضوب عليه، فيرجع غضبه إذًا ورحمته إلى الأفعال، وهو المراد بهذا الحديث. وإذا ظهر هذا فمعنى غلبة الرحمة، أو سبقها على ما جاء في الرواية الأخرى: أن رفقه بالخلق وإنعامه عليهم، ولطفه بهم، أكثر من انتقامه وأخذه، كيف لا، وابتداؤه الخلق وتكميله وإتقانه، وترتيبه، وخلق أول نوع الإنسان في الجنة، كل ذلك رحمته السابقة، وكذلك ما رتب على ذلك من النعم والألطاف في الدنيا والآخرة، وكل ذلك رحمات متلاحقات، ولو بدأ بالانتقام لما كمل لهذا العالم نظام. ثم العجب أن الانتقام به كملت الرحمة والإنعام، وذلك أن بانتقامه من الكافرين كملت رحمته على المؤمنين، وبذلك حصل صلاحهم وإصلاحهم، وتم لهم دينهم وفلاحهم، وظهر لهم قدر نعمة الله عليهم في صرف ذلك الانتقام عنهم، فقد ظهر أن رحمته سبقت غضبه، وإنعامه غلب انتقامه.
و(قوله: إن لله مائة رحمة، أنزل منها رحمة) هذا نص في أن الرحمة يراد بها متعلق إرادة الحق سبحانه، لا نفس الإرادة، وأنها راجعة إلى المنافع والنعم، ومقتضى هذا الحديث: أن الله تعالى علم أن أنواع النعم التي ينعم بها على خلقه مائة نوع، فأرسل منها فيهم في هذه الدار نوعا واحدا، فبه انتظمت مصالحهم،