للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ عَن عَمَلِهِ فِي السِّرِّ فَقَالَ بَعضُهُم: لَا أَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، وَقَالَ بَعضُهُم: لَا آكُلُ اللَّحمَ، وَقَالَ بَعضُهُم: لَا أَنَامُ عَلَى فِرَاشٍ، فَحَمِدَ اللَّهَ،

ــ

مدافعة النوم المشوَّشة للقراءة، أو لإعطاء الزوجة حقَّها من المضاجعة: كان نومُه ذلك عبادةً كصلاتِه، وقد بيّن هذا المعنى سلمان الفارسي لأبي الدرداء بقوله: لكنِّي أقوم وأنام، وأحتسب في نومتي ما أحتسبه في قَومتي. وكذلك القول في الصيام. وأمَّا التزويج فيجري فيه مثل ذلك وزيادة نيَّة تحصين الفرج، والعين، وسلامة الدين، وتكثير نسل المسلمين. وبهذه القصود الصحيحة تتحقق فيه العبادات العظيمة.

ولذلك اختلف العلماء في: أيَّ الأمرين أفضل؟ التزويج أم التفرُّغ منه للعبادة؟ كما هو معروف في مسائل الخلاف. وعلى الجملة: فما من شيء من المباحات المستلذات وغيرها، إلا ويُمكن لمن شرح الله صدره أن يصرفه إلى باب العبادات والطاعات بإخطار معانيها بباله، وقصد نية التقرّب بها، كما قد نصَّ عليه المشايخ في كتبهم، كالحارث المحاسبي وغيره. ومَن فَهِمَ هذا المعنى وحصَّلَهُ تحقَّق: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قد حَلَ من العبادات أعلاها؛ لانشراح صدره، وحضور قصده، ولعلمه بحدود الله، وبما يُقرّب منه، ولما لم ينكشف هذا المعنى للنّفر السائلين عن عبادته استقلوها بناءً منهم على أن العبادة إنما هي استفراغ الوسع في الصلاة، والصوم، والانقطاع عن الملاذّ. وهيهات بينهما ما بين الثريَّا والثَّرى، وسُهيل والسُّها (١).

وعند الوقوف على ما أوضحناه من هذا الحديث يتحقق أنَّ فيه ردًّا على غلاة المتزهدين، وعلى أهل البطالة من المتصوفين؛ إذ كُلُّ فريقٍ منهم قد عَدَلَ عن طريقه، وحاد عن تحقيقه.

و(قوله: وقال بعضهم: لا آكل اللحم، وقال بعضهم: لا أنام على فراشٍ) قال البخاري بدل هذا الكلام: أما أنا فأصوم ولا أفطر. وهذا المساق أحسن؛


(١) كويكب صغير خفي في بنات نعش الكبرى، والناس يمتحنون به أبصارَهم (اللسان).

<<  <  ج: ص:  >  >>