للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

يقال هذا، وقد فعل النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك لما دخل بيته فوجد فيه تمرة فقال: (لولا أني أخاف أن تكون من الصدقة لأكلتها) (١). ودخول الصدقة بيت النبي صلى الله عليه وسلم بعيد؛ لأنها كانت محرمة عليه وعلى آله، لكنه راعى الاحتمال البعيد، والاحتمالات في الصور التي ذكرتم ليس بأبعد من هذا الاحتمال (٢)، فما وجه الانفصال؟ !

قلنا: لا نسلّم أن ما توقعه النبي صلى الله عليه وسلم كان بعيدًا؛ لأنهم كانوا يأتون بصدقات التَّمر للمسجد، وحجرته متصلة بالمسجد، فتوقع أن يكون صبي أو من يغفل عن ذلك يدخل التمر من الصدقة في البيت. فاتقى ذلك لقربه بحسب ما ظهر مِمَّا قرب ذلك التقدير، وليس من تلك الصور في شيء؛ لأنها خلية عن الأمارات. وإنما هي محض تجويزات.

وأما إن كان ذلك التجويز له مستند معتبر بوجه ما، فالأصل: العمل بالراجح، والورع الترك إن لم يلزم منه العمل بترك الراجح وب انه بالمثال. وهو: أن جلد الميتة لا يطهره الدباغ في مشهور مذهب مالك. فلا يجوز أن يستعمل في شيء من المائعات، لأنها تنجس إلا الماء وحده، فإنه يدفع النجاسة عن نفسه؛ لأنه لا ينجس إلا إذا تغير. هذا الذي ترجَّح عنده. ثم إنه اتقى الماء في خاصة نفسه. ونحو ذلك حكي عن أبي حنيفة أو سفيان الثوري أنه قال: لأن أخرَّ من السَّماء أهون عليَّ من أن أفتي بتحريم قليل النبيذ، وما شربته قط، ولا أشربه. فقد أعملوا الراجح في الفتيا، وتورعوا عنه في أنفسهم. وقد قال بعض المحققين: من حكم الحكيم أن يوسع على المسلمين في الأحكام، ويضيق على نفسه؛ يعني به ذلك المعنى.

ومنشأ هذا الورع الالتفات إلى مكان اعتبار الشرع ذلك المرجوح. وهذا


(١) رواه أحمد (٣/ ١٨٤).
(٢) ما بين حاصرتين ساقط من (ج ٢).

<<  <  ج: ص:  >  >>