قالوا في الأمثال:«وكم ترك الأوّل للآخر». ومما تابع فيه اللاحقون السابقين في باب النقد الأدبي:
استنباط عمود جديد للقصيدة العربية، معتمدين على نماذج قليلة من الشعر العربي، ومغفلين، أو متغافلين عمّا
استنبطه الأقدمون بعد استقراء شامل للنصوص الشعرية. هذا، وقد وصلتنا مجموعات شعرية قديمة، ونظرات نقدية سجلها الأقدمون في كتبهم، ولا يمكن أن نصدر حكما على الشعر العربي، دون قراءة واعية لما وصلنا من النصوص، والاطلاع على آراء الأقدمين. أما أشهر المجموعات الشعرية، فهي:«المفضليات»، من اختيار المفضل الضبيّ، و «الأصمعيات» من اختيار الأصمعي، و «جمهرة أشعار العرب» لأبي زيد القرشي، و «مختارات شعراء العرب» لابن الشجري. وعشرات الدواوين التي جمعها ورواها أعلام الأدب. وهناك مختارات مبوبة على المعاني، أشهرها «الحماسة» لأبي تمام.
[وأما النظرات النقدية]
فهي كثيرة، وقد عرّجنا بالقارئ على شرح المرزوقي لحماسة أبي تمام التي ضمت (٨٨٢) مقطوعة شعرية، وقد قدّم المرزوقي لشرحه بمقدمة نقدية تعدّ وثيقة نفيسة في تاريخ النقد الأدبي؛ لأنه ضمنها معايير عمود الشعر العربي الذي يوزن به الشعر. وكذلك نقلنا كلام ابن قتيبة على التحام أجزاء النظم في القصيدة العربية. (انظر ص ١٥ - ١٧ من هذا الكتاب).
* ومع هذا ما زال مؤرخو الأدب ونقاده في العصر الحديث، يردّدون مقولة ظهرت في بداية العصر الحديث، ينكر أصحابها وحدة القصيدة، ويزعمون أن القصيدة العربية القديمة مفككة، لا يجمعها خيط معنوي واحد، وزعموا أن البيت وحدة مستقلة في القصيدة أو في جزئها، يمكن تقديمه وتأخيره، وحذفه دون أن يؤثر في نسق القصيدة. وبهذا يكونون قد وضعوا عمودا للقصيدة العربية، مخالفا لما استنبطه القدماء. فهل اطلعوا على ما كتبه القدماء ورأوه خاطئا، لا يوافق النصوص الشعرية التي قرأوها؟ الجواب: إنهم قرأوا شيئا قليلا عن عمود الشعر العربي، ولم يستغرقوا كل ما قاله النّقّاد القدماء، وقرأوا شيئا من الشعر، ولم يقرأوا الشعر كلّه، ولذلك جاءت أحكامهم، مضلّلة، أضلّت طبقات متوالية من