وقال:«والله لمصيبتي بأهل بيتي أن لا يكون فيهم أحد يحفظ هذا لقلّة رغبتهم في الأدب، أعظم وأشدّ عليّ من مصيبتي بابني».
وقد جعل صدر القصيدة حديثا بينه وبين امرأة تسائله عن شحوبه وأرقه، فيجيبها عن سبب حزنه وألمه. ثم رسم لنا ثلاث لوحات فنيّة لثلاثة أنماط من مظاهر القوة والحذر، والحرص، ومع ذلك لا تجدي شيئا أمام الموت، فهو أقوى وأقدر.
ويبدأ كل لوحة بقوله:«والدهر لا يبقى على حدثانه» ... ويرسم لنا في اللوحة الأولى صورة الحمار الوحشي الذي بقي في معزل ثم ساقه القدر إلى عين ماء صادف عندها صيّادا، كان مصرعه على يديه. ويصف في اللوحة الثانية صورة ثور وحشي لم ينفعه حذره، ولم يمنعه من الوقوع في حبائل الصياد. وفي الصورة الثالثة يصف رجلا مدججا بالسلاح شجاعا جريئا، ولكنه يخرّ صريعا أمام قرنه. والشاعر يتخذ من هذه الأنماط الثلاثة عزاء لنفسه وتسلية لها وحضا على الصبر.
وبعد: فإنّ ما أشرت إليه من القصائد المطولة ذات الوحدة المعنوية، أو ذات الترابط النفسي والعاطفي، هي نماذج قليلة من كثير مثبت في الدواوين والمجموعات الشعرية وإنّ استقصاءها لا يكون إلا في بحث مطوّل. والذي أردته من هذه النماذج أن أنبّه نقاد الشعر ودارسيه، إلى أنّ نقد النص والحكم عليه يسبقه عمل أكثر خطرا من نقد النص وتذوقه، وهو تخريج أبيات القصيدة من جميع المصادر الأدبية، والموازنة بين الروايات، والتأكد من أن هذه الأبيات هي كلّ ما قاله الشاعر منها، أو أن الشاعر قد قال هذه القصيدة، أي: صحة نسبة القصيدة إلى صاحبها، وعصرها، وأنها لم ينقص أو يزد فيها، ولم يختلّ ترتيبها، فليس كلّ شعر في ديوان أو مجموعة شعرية يصحّ جعله مثالا للحكم على العصر المنسوب إليه، لأن القصائد القديمة لعبت بها أهواء الرواة وأذواقهم ومزقتها الاختيارات، وأساء إليها النّسّاخ، وشتت شملها أهل النحو والتفسير لاختيارهم البيت والبيتين من القصيدة، بحسب الحاجة إلى الشواهد، وربما وجدت عشرة الأبيات من القصيدة في كتاب التفسير أو كتاب النحو، موزعة في مواطن متفرقة. ولا تغترنّ