للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقد ردّ ابن قتيبة رواية سيبويه وقال: وقد غلط على الشاعر؛ لأنّ هذا الشعر كلّه مخفوض. [الشعر والشعراء/ ٤٣]. وقال الحسن العسكري في كتاب «التصحيف/ ٢٠٧»: ومما غلط فيه النحويون من الشعر، ورووه موافقا لما أرادوه، ما روي عن سيبويه (وذكر البيت).

قلت: ولكن النحويين فيهم عصبية وعناد، وما رأيت فئة تتعصب لرئيسها تعصّب البصريين لسيبويه، فإنّهم نزّهوا سيبويه وكتابه عن كل نقيصة أو عيب أو سهو، ولم يعترفوا بقول القائل: «كفى المرء نبلا أن تعدّ معايبه» ولذلك فإنهم قد التمسوا له الأعذار لتكون روايته حجة: فقالوا: إنه سمع من العرب الذين يستشهد بقولهم من ينشد هذين البيتين بالنصب، فكان إنشاده حجة. وهذا الاعتذار ليس مقبولا، وبخاصة في هذين البيتين؛ لأنّ الشاهد يكمن في القافية، وكان الواجب أن يسأل الراوي عن أخ للبيت على الأقل ليعرف حركة القوافي. واعتذروا عن البيت الثاني - بيت عقيبة بن هبيرة - بأن للبيت أخا منصوب القافية، وأن البيتين للشاعر عبد الله بن الزّبير - بفتح الزاي - الأسدي. وقالوا: وليس ينكر أن يكون بيت من قصيدتين معا؛ لأن الشعراء قد يستعير بعضهم من كلام بعض.

وهذا الاعتذار غير مقبول أيضا. لأن وجود بيت واحد برمّته في قصيدتين يغلب أن يكون من خلط الرواة، ثم إنّ عدم اطّلاع النحويّ على القافية الأخرى المجرورة عند الشاعر الآخر، يجعل القاعدة النحوية المستنبطة غير مطردة، فالقواعد المطردة القياسيّة يجب أن تبنى على الاستقراء.

* أما الجهة الرابعة التي جاء منها التوهم بأن القصيدة العربية القديمة غير مترابطة فهي الرواية. فالشعر العربيّ الجاهليّ، والمخضرم، بقي زمنا - الله أعلم به - تتداوله الألسنة، وتتناشده العرب، وينتقل من قاصّ إلى آخر، إلى أن جاء زمن الرواية والتدوين في القرن الثاني الهجري، فرأينا الرواة يختلفون في رواية البيت على وجوه مختلفة، ورأينا القصيدة تطول عند بعضهم، وتقصر عند آخر، ويختلف ترتيب الأبيات في القصيدة باختلاف الراوي. ومع هذه الحال، فإننا لسنا على يقين أنّ كل قصيدة منسوبة إلى شاعر، هي كلّ ما قاله منها فلعلّ أبياتا قد فقدت منها،

<<  <  ج: ص:  >  >>