والجمال معاً أدركت سراً آخر من أسرار أسلوب القرآن فإذا ما عرفت أنه في خطابه الكينونة البشرية يذكر في قضية ما بالقدر الذي تحتاجه الكينونة البشرية رأيت أمراً عجباً.
فإذا عرفت أن البشر قد اعتادوا على أنواع من الأساليب، أسلوب أدبي وأسلوب علمي وأسلوب مدرسي، وأسلوب خطابي إلى غير ذلك، ورأيت أن أسلوب القرآن واحد في قوة البيان وهو يتحدث عن كل الموضوعات مما لا تجده في أساليب الخلق عرفت أنك أمام أسلوب لا يمكن أن يكون بشري المصدر.
- سابعاً: ولقد كان من مقاصدنا الرئيسية في كتابنا "الأساس في التفسير" أن نبرهن على ترابط الآيات في السورة الواحدة، وترابط سور كل مجموعة مع بعضها وكيف أن هناك سياقاً خاصاً لكل مجموعة يأتي على نسق واحد، بحيث يكون للقرآن كله سياق خاص، ولو عرفت من هذا النوع من سبك الكلام وإحكام سرده وترابط أجزائه وتماسك كلماته وجمله وآياته وسوره على أسلوب لا يمكن أن يخطر ببال بشر، هذا مع تنوع المقاصد وتعدد الطرائق للموضوع الواحد، لرأيت من ذلك عجباً لا ينقضي وفي تفسيرنا بيان تفصيلي لمثل هذه الشؤون، فأسلوب القرآن تجتمع فيه الوحدة البيانية والوحدة الموضوعية. والوحدة في السياق على أنواع شتى لا يكاد الناس أن يدركوا جزءاً من كمالاته.
- ثامناً: وهناك شيء واضح في أسلوب القرآن أشرنا إليه من قبل وهو أنه يورد المعنى الواحد بألفاظ متعددة وطرق جديدة بإجمال واختصار أحياناً وبإسهاب أحياناً، وإنك لتجد قارئه لا يمل من تكراره لما فيه من سلاسة وجدة وسياق وجرس وإيقاع، وكل ذلك دون أن يتناقض، فهو الحق الخالص، والصدق الخالص، وفي ذلك من الحكم ما لا يحيط به أحد، وإنما كمال العلماء يظهر بقدر ما يدركون من هذه الأسرار، هذا دون أن يكون في ذلك كله حشو أو حرف في غير محله أو كلمة في غير محلها، فإذا ما اجتمع إلى كل هذا غاية البيان عرفت أن هذا شيء جل عن طاقة البشر، وقد وصف بعضه أسلوبه بقوله: تلتقي عنده نهايات الفضيلة كلها على تباعد ما بين أطرافها ثم ذكر خصائص أسلوب القرآن فذكر القصد في اللفظ والوفاء بحق المعنى، وخطاب العامة وخطاب الخاصة، وإقناع العقل وإمتاع العاطفة، والبيان والإجمال.