لما فتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة أقام فيها تسع عشرة يصلي ركعتين، قال: فنحن إذا سافرنا فأقمنا تسع عشرة قصرنا، وإن زدنا أتممنا. ا. هـ. كذا في [النيل (٣/ ٨٥)]. وعزاه إلى البخاري وأحمد وابن ماجة. قلنا في الجواب عنه إن مبنى هذا القول هو إقامة رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة تسعة عشرة يوماً، ولا حجة فيه ما لم يعلم أن عزمه صلى الله عليه وسلم ماذا كان؟ فإن المدار على العزم دون القيام، فلما اطلعنا على مبنى قوله وهو ضعيف علمنا ضعف قوله هذا، ولم يكن مثل هذا المبنى في قوله: بخمسة عشر يوماً، فأخذنا به لا سيما وقد وجدنا ابن عمر وافقه في التحديد بذلك، ولم يوافقه في التحديد بتسعة عشر يوماً أحد من الصحابة.
وإن سلمنا أن قيامه صلى الله عليه وسلم بمكة عام الفتح كان بنية الإقامة فنقول: قد اضطربت الروايات في بيان مدة إقامته إذ ذاك، فروى البخاري من طريق عاصم، وحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال:"أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم تسعة عشر يقصر" كما مر، وأخرجه أبو داود من طريق حفص بن غياث، عن عاصم، عن عكرمة، عنه:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقام سبع عشرة بمكة يقصر الصلاة". قال ابن عباس:"ومن أقام سبع عشرة قصر، ومن أقام أكثر أتم" ا. هـ. ثم أخرجه بطريق ابن الأصبهاني، عن عكرمة، عنه كذلك، بلفظ سبع عشرة (١/ ٤٧٥). وإسناد الأول قال النووي في "الخلاصة": على شرط البخاري، كما في الزيلعي (١/ ٣٠٨) وفي "الدراية": إسناده صحيح ا. هـ. ورواه ابن حبان في "صحيحه" كما في التلخيص الجبير: (١/ ١٢٩) ولأبي داود أيضاً من طريق محمد ابن سلمة، عن ابن إسحاق، عن الزهري، عن عبيد الله، عن ابن عباس:"أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة عام الفتح خمس عشرة يقصر الصلاة". قال الحافظ في "الفتح": وضعفها النووي في "الخلاصة" وليس بجيد، لأن رواتها ثقات، ولم ينفرد بها ابن إسحاق.
قلت (التهانوي): لكن تأولها ابن حجر أن الراوي حذف يومي الدخول والخروج فتوافق سبعة عشر فلما اضطربت الروايات في مدة إقامته صلى الله عليه وسلم بمكة عام الفتح أخذ الثوري وأهل الكوفة وأصحابنا الحنفية برواية خمس عشرة، لكونها أقل ما ورد، والأقل المتيقن، فيحمل ما زاد على أنه وقع اتفاقاً، وهذه وإن لم تكن من رواية البخاري ولا كرواية تسع عشرة في قوة الإسناد ولكن رواتها كلهم ثقات، وهي راجحة على سائر الروايات "دراية" كما