ومنها دفع توهم ما ليس مراداً كقوله تعالى {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} وقرئ "فامضوا إلى ذكر الله". [وهي قراءة شاذة]. فالقراءة الأولى يتوهم منها وجوبُ السرعة في المشي إلى صلاة الجمعة، ولكن القراءة الثانية رفعت هذا التوهم لأن المضيَّ ليس من مدلوله السرعة.
ومنها بيان لفظ مبهم على البعض نحو قوله تعالى:{وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ} وقرئ "كالصوف المنفوش"[وهي قراءة شاذة] فبينت القراءة الثانية أن العهن هو الصوف.
ومنها تجلية عقيدةٍ ضل فيها بعضُ الناس: نحو قوله تعالى في وصف الجنة وأهلها: {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا} جاءت القراءة بضم الميم وسكون اللام في لفظ (وملكاً كبيراً) وجاءت قراءة أخرى بفتح الميم وكسر اللام في هذا اللفظ نفسه فرفعت هذه القراءة الثانية نقاب الخفاء عن وجه الحق في عقيدة رؤية المؤمنين لله تعالى في الآخرة، لأنه سبحانه هو الملك وحده في تلك الدار {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ؟ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ}.
والخلاصة: أن تنوع القراءات، يقومُ مقام تعدد الآيات. وذلك ضربٌ من ضروب البلاغة، يبتدئ من جمال هذا الإيجاز وينتهي إلى كمال الإعجاز.
أضفْ إلى ذلك ما في تنوع القراءات من البراهين الساطعة، والأدلة القاطعة على أن القرآن كلام الله، وعلى صدق من جاء به وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن هذه الاختلافات في القراءة على كثرتها لا تؤدي إلى تناقض في المقروء وتضاد، ولا إلى تهافت وتخاذل، بل القرآن كله على تنوع قراءاته، يُصدِّق بعضه بعضاً، ويبينُ بعضه بعضاً، ويشهد بعضه لبعض، على نمط واحد في علو الأسلوب والتعبير، وهدفٍ واحدٍ من سموِّ الهداية والتعليم. وذلك- من غير شكٍ - يفيدُ تعدد الإعجاز بتعدد القراءات والحروف.
ومعنى هذا أن القرآن يعجزُ إذا قرئ بهذه القراءة، ويُعجزُ أيضاً إذا قُرئ بهذه القراءة الثانية، ويُعجز أيضاً إذا قُريء بهذه القراءة الثالثة، وهلم جرا. ومن هنا تتعدد المعجزات بتعدد تلك الووه والحروف!.