للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

بأبي ذَرٍّ، فقلتُ له: ما أنزلك منزلك هذا؟ قال: كنتُ بالشام، فاختلفتُ أنا ومعاوية في هذه الآية: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (١) فقال معاوية: نزلت في أهل الكتاب، فقلت: نزلت فينا وفيهم، فكان بيني وبينه في ذلك كلامٌ، فكتب إلى عُثمان يشكوني، فكتب إليَّ عثمان: أن أقدم المدينة، فقدمتها فكثر عليَّ الناس، حتى كأنهم لم يروني قبل ذلك، فذكرتُ ذلك لعثمان، فقال لي: إن شئت تنحَّيتَ، فكنت قريباً، فذاك الذي أنزلني هذا المنزل ولو أمروا عليَّ حبشياً لسمعتُ وأطعْتُ.

قال الحافظ في "الفتح" ٣/ ٢٧٥ وفي هذا الحديث من الفوائد: أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة لاتفاق أبي ر ومعاوية على أن الآية نزلت في أهل الكتاب، وفي ملاطفة الأئمة للعلماء، فإن معاوية لم يجسر على الإنكار عليه، حتى كاتب من هو أعلى منه في أمره، وعثمان لم يحنق على أبي ذر، مع كونه كان مخالفاً له في تأويله، وفيه التحذير من الشقاق والخروج على الأئمة، والترغيب في الطاعة لأولي الأمر، وأمر الأفضل بطاعة المفضول خشية المفسدة، وجواز الاختلاف في الاجتهاد، والأخذ بالشدة في الأمر بالمعروف وإن أدى إلى فراق الوطن، وتقديم دفع المفسدة على جلب المصلحة، لأن في بقاء أبي ر بالمدينة، مصلحة كبيرة من بث علمه في طالب العلم، ومع ذلك فرجح عند عثمان دفع ما يتوقع عن المفسدة من الأخذ بمذهبه الشديد في هذه المسألة، ولم يأمره بعد ذلك بالرجوع عنه، لأن كلا منهما كان مجتهداً. وقال ابن كثير رحمه الله ٤/ ١٥٧، ١٥٨: وكان من مذهب أبي ذر رضي الله عنه، تحريم ادخرا ما زاد على نفقة العيال، وكان يفتي بذلك ويحثهم عليه، ويأمرهم به، ويغلظ في خلافه، فنهاه معاوية، فلم ينته، فخشي أن يضر بالناس في هذا، فكتب يشكوه إلى أمير المؤمنين عثمان وأن يأخذه إليه، فاستقدمه عثمان إلى المدينة، وأنزله بالربذة وحده، وبها مات رضي الله عنه في خلافة عثمان.

أقول: جمهور العلماء أنَّ من أدى زكاة ماله والحقوق المترتبة عليه من نفقة العيال وإطعام الجائع الذي عرف خبره صاحب المال وغير ذلك من الحقوق الواجبة لا يدخل في الوعيد الذي ورد في الآية.


= (يكنزون) الكنز: الادخار والجمع. مصدر كنز المال يكنزه كنزاً.
(١) التوبة: ٣٤.

<<  <  ج: ص:  >  >>