وَأَمَّا النُّزُولُ "الْمُقَيَّدُ" بِالسَّمَاءِ فَقَوْلُهُ: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ} [المؤمنون: ١٨]، وَالسَّمَاءُ اسْمُ جِنْسٍ لِكُلِّ مَا عَلَا، فَإِذَا قُيّدَ بِشَيءٍ مُعَيَّنٍ تَقَيَّدَ بِهِ، فَقَوْلُهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ: {مِنَ السَّمَاءِ} مُطْلَقٌ؛ أَيْ: فِي الْعُلُوِّ، ثُمَّ قَد بَيَّنَهُ فِي مَوضِعٍ آخَرَ بِقَولِهِ: {أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ} وَقَوْلُهُ: {فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ} [النور: ٤٣]؛ أيْ: أَنَّهُ مُنَزَّل مِن السَّحَابِ.
وَمِمَّا يُشْبِهُ نُزُولَ الْقُرْآنِ قَوْلُهُ: {يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [النحل: ٢]، فَنُزُولُ الْمَلَائِكَةِ هُوَ نُزُولُهُم بِالْوَحْيِ مَن أَمْرِهِ الَّذِي هوَ كَلَامُهُ.
وَأَمَّا "الْمُطْلَقُ" فَفِي مَوَاضِعَ، مِنْهَا: مَا ذَكَرَهُ مِن إنْزَالِ السَّكِينَةِ بِقَوْلِهِ: {فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [الفتح: ٢٦]، وَمِن ذَلِكَ إنْزَالُ الْمِيزَانِ.
والْمَلَائِكَةُ قَد تَنْزِلُ عَلَى قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ؛ كَقَوْلِهِ: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} [الأنفال: ١٢]، فَذَلِكَ الثَّبَاتُ نَزَلَ فِي الْقُلُوبِ بِوَاسِطَةِ الْمَلَائِكَةِ وَهُوَ السِّكِّينَةُ.
فَاَللّهُ يُنَزِّلُ عَلَيْهِ مَلَكا وَذَلِكَ الْمَلَكُ يُلْهِمُهُ السَّدَادَ، وَهُوَ يَنْزِلُ فِي قَلْبِهِ.
وَقَد ذَكَرَ سُبْحَانَهُ إنْزَالَ الْحَدِيدِ وَالْحَدِيدُ يُخْلَقُ فِي الْمَعَادِنِ.
ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُ أَنْزَلَ الْحَدِيدَ (١)، فَكَانَ الْمَقْصُودُ الْأَكْبَرُ بِذِكْرِ الْحَدِيدِ هُوَ اتّخَاذُ آلَاتِ الْجِهَادِ مِنْهُ؛ كَالسَّيْفِ وَالسِّنَانِ وَالنَّصْلِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، الَّذِي بِهِ يُنْصَرُ اللهُ وَرَسُولُهُ - صلى الله عليه وسلم -، وَهَذِهِ لَمْ تَنْزِلْ مِن السَّمَاءِ.
لَكِنَّ لَفْظَ النُّزُولِ أَشْكَلَ عَلَى كَثِير مِن النَّاسِ، حَتَّى قَالَ قُطْرُبُ -رَحِمَه اللهُ-:
(١) قال -رَحِمَه اللهُ- في موضع آخر: لِأنَّ الْحَدِيدَ ينزلُ مِن رُءُوسِ الْجِبَالِ لَا يَنْزِلُ مِن السَّمَاءِ وَكَذَلِكَ الْحَيَوَانُ؛ فَإِنَّ الذَّكَرَ يُنْزِلُ الْمَاءَ فِي الْإِنَاثِ. (١٢/ ٥٢٠).
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute