للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

وَكَلَامُهُم غَالِبُهُ لَا يَخْلُو مِن تَكَلُّفٍ: إمَّا فِي الْعِلْمِ، وَإِمَّا فِي الْقَوْلِ. [٩/ ٤٢]

* * *

(ذمُّ تكلف الحدود في العلوم)

٦٥٦ - إنَّ الْمُتَكَلِّمِينَ بِالْحُدُودَ طَائِفَةٌ قَلِيلَةٌ فِي بَنِي آدَمَ، لَا سِيَّمَا الصِّنَاعَةُ الْمَنْطِقِيَّةُ.

فَإِنَّ وَاضِعَهَا هُوَ أَرِسْطُو، وَسَلَكَ خَلْفَهُ فِيهَا طَائِفَةٌ مِن بَنِي آدَمَ. وَمِن الْمَعْلُومِ أَنَّ عُلُومَ بَنِي آدَمَ -عَامَّتِهِمْ وَخَاصَّتِهِمْ- حَاصِلَةٌ بِدُونِ ذَلِكَ.

فَإِنَّ الْقُرُونَ الثَّلَاثَةَ مِن هَذِهِ الْأُمَّةِ- الَّذِينَ كَانُوا أَعْلَمَ بَنِي آدَمَ عُلُومًا وَمَعَارِفَ- لَمْ يَكُن تَكَلُّفُ هَذِهِ الْحُدُودِ مَن عَادَتِهِمْ؛ فَإِنَّهُم لَمْ يَبْتَدِعُوهَا، وَلَمْ تَكُن الْكُتُبُ الْأَعْجَمِيَّةُ الرُّومِيَّةُ عُرِّبَتْ لَهُمْ.

وَإِنَّمَا حَدَثَتْ بَعْدَهُم مِن مُبْتَدِعَةِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَالْفَلَاسِفَةِ، وَمِن حِينِ حَدَثَتْ صَارَ بَيْنَهُم مِن الِاخْتِلَافِ وَالْجَهْلِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللهُ.

وَكَذَلِكَ عِلْمُ الطِّبِّ والْحِسَابِ وَغَيْرِ ذَلِكَ لَا تَجِدُ أَئِمَّةَ هَذِهِ الْعُلُومِ يَتَكَلَّفُونَ هَذِهِ الْحُدُودَ الْمُرَكَّبَةَ مِن الْجِنْسِ وَالْفَصْلِ إلَّا مَن خَلَطَ ذَلِكَ بِصِنَاعَتِهِمْ مَن أَهْلِ الْمَنْطِقِ.

وَكَذَلِكَ النُّحَاةُ مِثْلُ سِيبَوَيْهِ الَّذِي لَيْسَ فِي الْعَالَمِ مِثْلُ كِتَابِهِ، وَفِيهِ حِكْمَةُ لِسَانِ الْعَرَبِ: لَمْ يَتَكَلَّفْ فِيهِ حَدَّ الِاسْمِ وَالْفَاعِلِ وَنَحْوِ ذَلِكَ كَمَا فَعَلَ غَيْرُهُ.

وَلَمَّا تَكَلَّفَ النُّحَاةُ حَدَّ الِاسْمِ ذَكَرُوا خدُودا كَثِيرَةً كُلّهَا مَطْعُونٌ فِيهَا عِنْدَهُمْ.

وَكَذَلِكَ مَا تَكَلَّفَ مُتَأَخِّرُوهُم مِن حَدِّ الْفَاعِلِ وَالْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ لَمْ يُدْخلْ فِيهَا عِنْدَهُم مَن هُوَ إمَامٌ فِي الصِّنَاعَةِ وَلَا حَاذِقٌ فِيهَا.

وَكَذَلِكَ الْحُدُودُ الَّتِي يَتَكَلَّفُهَا بَعْضُ الْفُقَهَاءِ لِلطَّهَارَةِ وَالنَّجَاسَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِن مَعَانِي الْأَسْمَاءِ الْمُتَدَاوَلَةِ بَيْنَهُمْ.

<<  <  ج: ص:  >  >>