وكانت هذه المناظرة سَنَة خَمْسٍ وَسَبْعِمِائَةٍ.وكان الشيخ تقي الدين يَنَالُ مِنَ الْجَاشْنكِيرِ، وَمِن شَيْخِهِ نَصْر الْمَنْبِجِيِّ، وَيقُولُ: زَالَتْ أَيَّامُهُ، وَانْتَهَتْ رَياسَتُهُ، وَقَرُبَ انْقِضَاءُ أجْلِهِ، وَيَتَكَلَّمُ فِيهِمَا وَفِي ابْنِ عَرَبِيِّ وَأَتْبَاعِهِ.ولم يُخيب الله تعالى ظن الشيخ، فعاد الملك المنصور قلاوون إلى الملك سَنَة تِسْع وَسَبْعِمِائَةِ، وزالت دولة الْجَاشْنَكِيرِ، وخُذل هو وشيخه نصر المنبجي الاتحادي الحلولي.وَلَمَّا دَخَلَ السُّلْطَانُ إِلَى مِصْرَ يَوْمَ عِيدِ الْفِطْرِ لَمْ يَكُن لَهُ دَأْبٌ إِلَّا طَلَبَ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ مِنَ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ مُعَزَّزًا مُكَرَّمًا مُبَخلًا، فَوَجَّهَ إِلَيْهِ فِي ثَانِي يَوْم مِن شَوَّالٍ بَعْدَ وُصُولِهِ بِيَوْم أو يَوْمَيْنِ، فَقَدِمَ الشَيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ عَلَى السُّلْطَانِ فِي يَوْمِ ثَامِنِ الشَّهْرِ، وَخَرَجَ مَعَ الشَّيْخِ خَلْقٌ يُوَدِّعُونَهُ، وَاجْتَمَعَ بِالسُّلْطَانِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَأكْرَمَهُ، وَتَلَقَّاهُ فِي مَجْلِسٍ حَافِلٍ فِيهِ قُضَاةُ الْمِصْرِيِّينَ وَالشَّامِيِّينَ، وَأصْلَحَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ.ثُمَّ نَزَلَ الشَّيْخُ إِلَى الْقَاهِرَةِ، وَسَكَنَ بِالْقُرْبِ مِن مَشْهَدِ الْحُسَيْنِ، وَالنَّاسُ يَتَرَدَّدُونَ إِلَيْهِ، وَالْأمَرَاءُ، وَالْجُنْدُ، وَجَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْقُضَاةِ، مِنْهُم مَن يَعْتَذِرُ إِلَيْهِ، وَيَتَنَصَّلُ مِمَّا وَقَعَ مِنْهُ، فَقَالَ: أنَا قَد حَالَلْتُ كل مَن آذَانِى.قَالَ ابْنُ الْقَلَانِسِيِّ: سَمِعْتُ الشَّيْخَ تَقِيَّ الدِّين يَذْكُرُ مَا كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ السُّلْطَانِ مِنَ الْكَلَام لَمَّا انْفَرَدًا فِي ذَلِكَ الشُّبَّاكِ الَّذِي جَلَسَا فِيهِ، وَأَنَّ السُّلْطَانَ اسْتَفْتَى الشَّيْخَ فِي قَتْلِ بَعْضِ الْقُضَاةِ بِسَبَبِ مَا كَانُوا تَكَلَّمُوا فِيهِ، وَأخْرَجَ لَهُ فَتَاوَى بَعْضِهِمْ بِعَزْلِهِ مِنَ الْمُلْكِ وَمُبَايِعَةِ الْجَاشْنَكِيرِ، وَأَنَّهُم قَامُوا عَلَيْكَ وَآذَوْكَ أنْتَ أيْضًا! وَأخَذَ يَحُثُّهُ بِذَلِكَ عَلَى أَنْ يُفْتِيَهُ فِي قَتْلِ بَعْضِهِمْ، وَإِنَّمَا كَانَ حَنَقُهُ عَلَيْهِم بِسَبَبِ مَا كَانُوا سَعَوْا فِيهِ مِن عَزْلِهِ وَمُبَايَعَةِ الْجَاشْنَكِيرِ، فَفَهِمَ الشَّيْخُ مُرَادَ السُّلْطَانِ، فَأَخَذَ فِي تَعْظِيمِ الْقُضَاةِ وَالْعُلَمَاءِ، وَيُنْكِرُ أَنْ يَنَالَ أحَدًا مِنْهُم سُوءٌ، وَقَالَ لَهُ: إِذَا قَتَلْتَ هَؤُلَاءِ لَا تَجِدُ بِعْدَهُم مِثْلَهُمْ، فَقَالَ لَهُ: إِنَّهُم قَد آذَوْكَ وَأرَادُوا قَتْلَكَ مِرَارًا، فَقَالَ الشَيْخُ: مَن آذَانِي فَهُوَ فِي حِلٍّ، وَمَن آذَى اللهَ وَرَسُولَهُ فَاللهُ يَنْتَقِمُ مِنْهُ، وَأَنَا لَا أَنْتَصِرُ لِنَفْسِي. وَمَا زَالَ بِهِ حَتَّى حَلُمَ عَنْهُمُ السُّلْطَانُ وَصَفَحَ.قَالَ: وَكَانَ قَاضِي الْمَالِكِيَّةِ ابْنُ مَخْلُوفٍ يَقُولُ: مَا رَأَيْنَا مِثْل ابْنِ تَيْمِتةَ، حَرَّضْنَا عَلَيْهِ، فَلَمْ نَقْدِرْ عَلَيْهِ، وَقَدَرَ عَلَيْنَا فَصَفَحَ عَنَّا وَحَاجَجَ عَنَّا.يُنظر: البداية والنهاية لابن كثير (المتوفى ٧٧٤ هـ)، تحقيق: عبد الله بن عبد المحسن التركي (١٨/ ٨٣ - ٩٤).
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute