مَعَ قَوْلِهِ فِي "الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ" لَمَّا سَأَلَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ: أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: "الصَّلَاةُ فِي وَقْتِهَا"، قَالَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: "بِرُّ الْوَالِدَيْنِ"، قَالَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: "الْجِهَادُ: سَبِيلِ اللهِ" (١).
فَإن قَوْلَهُ: "إيمَانٌ بِاللهِ" دَخَلَ فِيهِ الصَّلَاةُ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْأَوَّلِ بِرَّ الْوَالِدَيْنِ؛ إذ لَيْسَ لِكُلِّ أَحَدٍ وَالِدَانِ.
فَالْأوَّلُ مُطْلَقٌ، وَالثَّاني مُقَيَّدٌ بِمَن لَهُ وَالِدَانِ.
وَلهَذَا كَانَت سُنَّةُ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- وَسَائِرِ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ وَمَن سَلَكَ سَبِيلَهُم مِن وُلَاةِ الْأُمُورِ -فِي الدَّوْلَةِ الْأمَوِيَّةِ وَالْعَبَّاسِيَّةِ- أَنَّ الْإِمَامَ يَكُونُ إمَامًا فِي هَذَيْنَ الْأَصْلَيْنِ جَمِيعًا: الصَّلَاةُ وَالْجِهَادُ؛ فَاَلَّذِي يَؤُمُّهُم فِي الصَّلَاةِ يَؤُمُّهُم فِي الْجِهَادِ، وَأَمْرُ الْجِهَادِ وَالصَّلَاةِ وَاحِدٌ فِي الْمُقَامِ وَالسَّفَرِ.
فصْلٌ
وَكَانَت مَوَاضِعُ الْأَئِمَّةِ وَمَجَامِعُ الْأُمَّةِ هِيَ الْمَسَاجِدَ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- أَسَّسَ مَسْجِدَهُ الْمُبَارَكَ عَلَى التَّقْوَى، فَفِيهِ الصَّلَاةُ وَالْقِرَاءَةُ وَالذِّكْرُ، وَتَعْلِيمُ الْعِلْمِ وَالْخُطَبُ، وَفِيهِ السِّيَاسَةُ وَعَقْدُ الْأَلْوِيَةِ وَالرَّايَاتِ وَتَأمِيرُ الْأمَرَاءِ وَتَعْرِيفُ الْعُرَفَاءِ، وَفِيهِ يَجْتَمِعُ الْمُسْلِمُونَ عِنْدَهُ لِمَا أهَمَّهُم مِن أَمْرِ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ.
وَكَانَ الْخُلَفَاءُ وَالْأُمَرَاءُ يَسْكُنُونَ فِي بُيُوتِهِمْ كَمَا يَسْكُنُ سَائِرُ الْمُسْلِمِينَ فِي بُيُوتِهِمْ، لَكِنَّ مَجْلِسَ الْإِمَامِ الْجَامِعَ هُوَ الْمَسْجِدُ الْجَامِعُ.
فَلَمَّا كَانَت إمَارَة مُعَاوِيَة احْتَجَبَ لمَّا خَافَ أَنْ يُغْتَالَ كَمَا اُغْتِيلَ عَلَيَّ، وَاتّخذَ الْمَقَاصِير فِي الْمَسَاجِدِ لِيُصَلِّيَ فِيهَا ذُو السُّلْطَانِ وَحَاشِيَته وَاتَّخَذَ الْمَرَاكِبَ، فَاسْتَنَّ بِهِ الْخُلَفَاءُ الْمُلُوك بِذَلِكَ، فَصَارُوا مَعَ كَوْنِهِمْ يَتَوَلَّوْنَ الْحَرْبَ وَالصَّلَاةَ بِالنَّاسِ وَيُبَاشِرُونَ الْجُمْعَة وَالْجَمَاعَة وَالْجِهَاد وَإِقَامَة الْحُدُودِ: لَهُم قُصُور يَسْكُنُونَ فِيهَا وَيَغْشَاهُم رُؤُوس النَّاسِ فِيهَا.
(١) رواه البخاري (٢٧٨٢)، ومسلم (٨٥).
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute