للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:
مسار الصفحة الحالية:

وَمِن النَّاسِ مَن يَقُولُ: لَمَّا لَمْ يَنْتَفِعُوا بِالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالنُّطْقِ: جُعِلُوا صُمًّا بُكْمًا عُمْيًا، أَو لَمَّا أعْرَضُوا عَن السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالنُّطْقِ صَارُوا كَالصُّمِّ الْعُمْيِ الْبُكْمِ.

وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَل نَفْسُ قلُوبِهِم عَمِيَتْ وَصَمَّتْ وَبَكِمَتْ، كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: ٤٦].

وَالْقَلْبُ: هُوَ الْمَلِكُ، وَالْأَعْضَاءُ جُنُودُهُ، وَإِذَا صَلَحَ صَلَحَ سَائِرُ الْجَسَدِ، وَإِذَا فَسَدَ فَسَدَ سَائِرُ الْجَسَدِ، فَيَبْقَى يَسْمَعُ بِالْأُذُنِ الصَّوْتَ كَمَا تَسْمَعُ الْبَهَائِمُ، وَالْمَعْنَى لَا يَفْقَهُهُ، وَإِن فَقِهَ بَعْضَ الْفِقْهِ لَمْ يَفْقَهْ فِقْهًا تَامًّا؛ فَإِنَّ الْفِقْهَ التَّامَّ يَسْتَلْزِمُ تَأْثِيرُهُ فِي الْقَلْبِ مَحَبَّةَ الْمَحْبُوبِ، وَبُغْضَ الْمَكْرُوهِ، فَمَتَى لَمْ يَحْصُلْ هَذَا لَمْ يَكُن التَّصَوُّرُ التَّامُّ حَاصِلًا فَجَازَ نَفْيُهُ.

لِأَنَّ مَا لَمْ يَتِمَّ: يُنْفَى؛ كَقَوْلِهِ لِلَّذِي أَسَاءَ فِي صَلَاتِهِ: "صَلِّ فَإِنَّك لَمْ تُصَلِّ"، فَنَفْيُ الْإِيمَانِ حَيْثُ نُفِيَ مِنْ هَذَا الْبَابِ. [٧/ ٢٧]

١٤٤٨ - قَالَ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة: ٢٠٨]، الْجُمْهُورُ يَقُولُونَ: {فِي السِّلْمِ}؛ أَيْ: فِي الْإِسْلَامِ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: هُوَ الطَّاعَة، وَكِلَاهُمَا مَأْثُورٌ عَن ابْنِ عَبَّاسٍ، وَكِلَاهُمَا حَقٌّ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ: {كَافَّةً} فَقَد قِيلَ: الْمُرَادُ اُدْخُلُوا كُلُّكُمْ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ اُدْخُلُوا فِي الْإِسْلَامِ جَمِيعِهِ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ؛ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُؤْمَرُ بِعَمَلِ غَيْرِهِ، وَإِنَّمَا يُؤمَرُ بِمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ.

وقَوْله تَعَالَى: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً}؛ أَيْ: قَاتِلُوهُم كُلَّهُمْ، لَا تَدَعُوا مُشْرِكًا حَتَّى تُقَاتِلُوهُ؛ فَإِنَّهَا أُنْزِلَتْ بَعْدَ نَبْذِ الْعُهُودِ، لَيْسَ الْمُرَادُ: قَاتِلُوهُم مُجْتَمِعِينَ أَو جَمِيعُكُمْ؛ فَإِنَّ هَذَا لَا يَجِبُ، بَل يُقَاتَلُونَ بحَسَب الْمَصْلَحَةِ، وَالْجِهَادُ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ، فَإِذَا كَانَت فَرَائِضُ الْأَعْيَانِ لَمْ يُؤَكِّد الْمَأْمُورِينَ فِيهَا بِـ {كَافَّةً} [التوبة: ٣٦]، فَكَيْفَ يُؤَكِّدُ بِذَلِكَ فِي فُرُوضِ الْكِفَايَةِ؟ وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ تَعْمِيمُ الْمُقَاتِلِينَ.

<<  <  ج: ص:  >  >>