وَالْحُجَّةُ عَلَى الْعِبَادِ إنَّمَا تَقُومُ بِشَيْئَيْنِ:
أ- بِشَرْطِ التَّمَكُّنِ مِنَ الْعِلْمِ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ.
ب- وَالْقُدْرَةِ عَلَى الْعَمَلِ بِهِ.
وَلَمْ تَأْتِ الشَّرِيعَةُ جُمْلَةً، كَمَا يُقَالُ: إذَا أَرَدْت أَنْ تُطَاعَ فَأْمُرْ بِمَا يُسْتَطَاعُ.
فَكَذَلِكَ الْمُجَدِّدُ لِدِينِهِ وَالْمُحْيِي لِسُنَّتِهِ لَا يُبَلِّغُ إلَّا مَا أَمْكَنَ عِلْمُهُ وَالْعَمَل بِهِ، كَمَا أَنَّ الدَّاخِلَ فِي الْإِسْلَامِ لَا يُمْكِنُ حِينَ دُخُولِهِ أنْ يُلَقَّنَ جَمِيعَ شَرَائِعِهِ ويُؤْمَرَ بِهَا كُلِّهَا.
وَكَذَلِكَ التَّائِبُ مِنَ الذُّنُوب، وَالْمُتَعَلِّمُ وَالْمُسْتَرْشِدُ لَا يُمْكِنُ فِي أَوَّلِ الْأمْرِ أَنْ يُؤْمَرَ بِجَمِيعِ الدِّينِ، وَيُذْكَرَ لَهُ جَمِيعُ الْعِلْمِ، فَإِنَّهُ لَا يُطِيقُ ذَلِكَ، وَإِذَا لَمْ يُطِقْهُ لَمْ يَكُن وَاجِبًا عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْحَالِ، وَإِذَا لَمْ يَكُن وَاجِبًا لَمْ يَكن لِلْعَالِمِ وَالْأَمِيرِ أنْ يُوجِبَهُ جَمِيعَهُ ابْتِدَاءً؛ بَل يَعْفُو عَنِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ بِمَا لَا يُمْكِنُ عِلْمُهُ وَعَمَلُهُ إلَى وَقْتِ الْإِمْكانِ، كَمَا عَفَا الرَّسُولُ عَمَّا عَفَا عَنْهُ إلَى وَقْتِ بَيَانِهِ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مِن بَابِ إقْرَارِ الْمُحَرَّمَاتِ وَتَرْكِ الْأمْرِ بِالْوَاجِبَاتِ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ وَالتَّحْرِيمَ مَشْرُوطٌ بِإِمْكَانِ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ وَقَد فَرَضْنَا انْتِفَاءَ هَذَا الشَّرْطِ.
فَتَدَبَّرْ هَذَا الْأَصْلَ فَإِنَّهُ نَافِعٌ.
وَمِمَّا يَدْخُلُ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ الِاجْتِهَادِيَّةِ عِلْمًا وَعَمَلًا: أَنَّ مَا قَالَهُ الْعَالِمُ أَو الْأمِيرُ، أو فَعَلَهُ بِاجْتِهَادٍ أَو تَقْلِيدٍ (١)، فَإِذَا لَمْ يَرَ الْعَالِمُ الْآخَرُ وَالْأَمِيرُ الْآخَرُ مِثْل رَأيِ الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ لَا يَأْمُرُ بِهِ، أو لَا يَأْمُرُ إلَّا بِمَا يَرَاهُ مَصْلَحَةً وَلَا يَنْهَى عَنْهُ، إذ لَيْسَ لَهُ أنْ يَنْهَى غَيْرَهُ عَنِ اتّبَاعِ اجْتِهَادِهِ، وَلَا أَنْ يُوجِبَ عَلَيْهِ اتِّبَاعَهُ، فَهَذِهِ
(١) أي: تقليد عالمٍ مُعتبرٍ، لا تقليدِ الجهال أو علماء السوء، أو الآباء والأجداد، فهذا التقليد لا اعتبار له.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute