للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

ذَلِكَ الْمَكَانِ بِالصَّلَاةِ فِيهِ أَو النُّزُولِ لَمْ نَكُنْ مُتَّبِعِينَ؛ بَل هَذَا مِن الْبِدَعِ الَّتِي كَانَ يَنْهَى عَنْهَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ؛ كَمَا ثَبَتَ بِالْإِسْنَادِ الصَّحِيحِ مِن حَدِيثِ شُعْبَةَ عَن سُلَيْمَانَ التَّيمي عَن الْمَعْرُور بْنِ سويد قَالَ: كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي سَفَرٍ، فَصَلَّى الْغَدَاةَ ثُمَّ أَتَى عَلَى مَكَانٍ فَجَعَلَ النَّاسُ يَأْتُونَهُ فَيَقُولُونَ: صَلَّى فِيهِ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ عُمْرُ: "إنَّمَا هَلَكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنَّهُم اتَّبَعُوا آثَارَ أَنْبِيَائِهِمْ فَاتَّخَذُوهَا كَنَائِسَ وَبِيَعًا، فَمَن عَرَضَتْ لَهُ الصَّلَاةُ فَلْيُصَلِّ وَإِلَّا فَلْيَمْضِ".

فَلَمَّا كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- لَمْ يَقْصِدْ تَخْصِيصَهُ بِالصَّلَاةِ فِيهِ بَل صَلَّى فِيهِ لِأنَّهُ مَوْضِعُ نُزُولِهِ: رَأَى عُمَرُ أَنَّ مُشَارَكَتَهُ فِي صُورَةِ الْفِعْلِ مِن غَيْرِ مُوَافَقَةٍ لَهُ فِي قَصْدِهِ لَيْسَ مُتَابَعَةً؛ بَل تَخْصِيصُ ذَلِكَ الْمَكَانِ بِالصَّلَاةِ مِن بِدَعِ أَهْلِ الْكِتَاب الَّتِي هَلَكُوا بِهَا، وَنَهَى الْمُسْلِمِينَ عَن التَّشَبُّهِ بِهِم فِي ذَلِكَ، فَفَاعِلُ ذَلِكَ مُتَشَبِّهٌ بِالنَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فِي الصُّورَةِ، وَمُتَشَبِّهٌ بِالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فِي الْقَصْدِ الَّذِي هُوَ عَمَلُ الْقَلْبِ.

وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ؛ فَإِنَّ الْمُتَابَعَةَ فِي السُّنَّةِ أَبْلَغُ مِن الْمُتَابَعَةِ فِي صُورَةِ الْعَمَلِ، وَلهَذَا لَمَّا اشْتَبَهَ عَلَى كَثِيرٍ مِن الْعُلَمَاءِ جَلْسَةُ الاِسْتِرَاحَةِ: هَل فَعَلَهَا اسْتِحْبَابًا أَو لِحَاجَةٍ عَارِضَةٍ؛ تَنَازَعُوا فِيهَا.

وَكَذَلِكَ نُزُولُهُ بِالْمُحَصَّبِ عِنْدَ الْخُرُوجِ مَن مِنَى لَمَّا اشْتَبَهَ: هَل فَعَلَهُ لِأَنَّهُ كَانَ أَسْمَحَ لِخُرُوجِهِ أَو لِكَوْنِهِ سُنَّةً؟ تَنَازَعُوا فِي ذَلِكَ.

وَمِن هَذَا وَضْعُ ابْنِ عُمَرَ يَدَهُ عَلَى مَقْعَدِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، وَتَعْرِيفُ ابْنِ عَبَّاسٍ بِالْبَصْرَةِ، وَعَمْرِو بْنِ زاذان بِالْكُوفَةِ؛ فإِنَّ هَذَا لَمَّا لَمْ يَكُن مِمَّا يَفْعَلُهُ سَائِرُ الصَّحَابَةِ وَلَمْ يَكُن النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- شَرَعَهُ لِأُمَّتِهِ لَمْ يُمْكِنْ أَنْ يُقَالَ هَذَا سُنَّةٌ مُسْتَحَبَّةٌ؛ بَلْ غَايَتُهُ أَنْ يُقَالَ: هَذَا مِمَّا سَاغَ فِيهِ اجْتِهَادُ الصَّحَابَةِ، أَو مِمَّا لَا يُنْكَرُ عَلَى فَاعِلِهِ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا يَسُوغُ فِيهِ الاِجْتِهَادُ، لَا لِأَنَّهُ سُنَّةٌ مُسْتَحَبَّةٌ سَنَّهَا النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- لِأُمَّتِهِ، أَو يُقَالُ فِي التَّعْرِيفِ: إنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ أَحْيَانًا لِعَارِض إذَا لَمْ يُجْعَلْ سُنَّةً رَاتِبَةً.

<<  <  ج: ص:  >  >>