وفرق ما كان معه من المال، ولم يدخر إِلَّا قدر الكفاف، وقوت الأطفال. ثم دخل الشام، وأقام به قريبًا من سنتين، لم يشتغل إِلَّا بالعزلة والخلوة، والرياضة والمجاهدة، اشتغالًا بتزكية النفس، وتهذيب الأخلاق، وتصفية القلب لذكر الله تعالى، كما كان حصَّله من كتب الصوفية. قال: "فكنت أعتكف مدة في مسجد دمشق، أصعد منارة المسجد طول النهار، وأغلق بابها على نفسي، وثم رحلت منها إلى بيت المقدس، أدخل كل يوم الصخرة، وأغلق بابها على نفسي. ثم تحركت فيَّ داعية فريضة الحج، والاستمداد من بركات مكة والمدينة وزيارة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد الفراغ من زيارة الخليل صلوات الله وسلامه عليه، فسرت إلى الحجاز، ثم جذبتني الهمم، ودعوات الأطفال إلى الوطن، فعاودته بعد أن كنت أبعد الخلق عن الرجوع إليه، فآثرت العزلة به أيضًا حرصًا على الخلوة، وتصفية القلب للذكر. وكانت حوادث الزمان، ومهمات العيال، وضرورات المعيشة، تغير في وجه المراد، وتشوش صفوة الخلوة، وكان لا يصفو لي الحال إِلَّا في أوقات متفرقة. لكني مع ذلك لا أقطع طمعي منها، فتدفعني عنها العوائق، وأعود إليها. ودمت على ذلك مقدار عشر سنين، وانكشفت لي في أثناء هذه الخلوات أمور لا يمكن إحصاؤها واستقصاؤها". ثم أسرف في مدح الصوفية، وقد ذكر شيخ الإسلام شيئًا من ذلك. ومما قال الغزاليُّ عنهم: حتى إنهم في يقظتهم يشاهدون الملائكة، وأرواح الأنبياء ويسمعون أصواتًا ويقتبسون منهم فوائد، ثم يترقى الحال من مشاهدة الصور والأمثال، إلى درجات يضيق عنها النطق، فلا يحاول معبر أن يعبر عنها إِلَّا اشتمل لفظه على خطأ صريح لا يمكنه الاحتراز عنه. ثم ادعى أن كل من لم يكن على ما هم عليه بأنهم جهال حيث قال: "ووراء هؤلاء قوم جهال، هم المنكرون لأصل ذلك، المتعجبون من هذا الكلام، ويستمعون ويسخرون، ويقولون العجب! إنهم كيف يهذون! وفيهم قال الله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} [محمد: ١٦]. (ص ١٧٠ - ١٨٠). فتأمل كيف وقع في هذه الأخطاء العقدية والسلوكية، ومن أخطرها: تركُه تعليم العلم ونشره، وتفرغُه للعبادة وتهذيب النفس على طريقة الصوفية المبتدعة، التي لم يتسابق إليها أحرص الناس على الخير والصلاح، وهم الصحابة"، بل المتواتر عنهم أنهم تفرغوا للعلم والدعوة والجهاد. * نبيه: قوله: أن طريقتهم إنما تتم .. جاء في الأصل: إنا تتم. ولعل الصواب: المثبت. =