وَذَكَرَ أَنَّهُ تَخَلَّى عَشْرَ سِنِينَ، إلَى أَنْ قَالَ: انْكَشَفَ لِي فِي أَثْنَاءِ هَذِهِ الْخَلَوَاتِ أُمُورٌ لَا يُمْكِنُ إحْصَاؤُهَا وَاسْتِقْصَاؤُهَا، وَالْقَدْرُ الَّذِي أَذْكُر لِيُنْتَفَعَ بِهِ: أَنِّي عَلِمْت يَقِينًا أَنَّ الصُّوفِيَّةَ هُم السَّالِكُونَ لِطَرِيقِ اللّهِ خَاصَّةً، وَأَنَّ سِيرَتَهُم أَحْسَنُ السِّيَرِ، وَطَرِيقَتَهُم أَصْوَبُ الطُّرُقِ، وَأَخْلَاقَهُم أَزْكَى الْأَخْلَاقِ.
قُلْت: يُسْتَفَادُ مِن كَلَامِهِ أَنَّ أَسَاسَ الطَّرِيقِ: هِيَ شَهَادَةُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللّهِ كَمَا قَرَّرْته غَيْرَ مَرَّةٍ، وَهَذَا أَوَّلُ الْإِسْلَامِ، الَّذِي جَعَلَهُ هُوَ النِّهَايَةَ.
لَكِنْ هُوَ لَمْ يَعْرِفْ طَرِيقَةَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ مِن الْعَارِفِينَ؛ فَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْهَا، وَهِيَ الطَّرِيقَةُ الْمُحَمَّدِيَّةُ الْمَحْضَة الشَّاهِدَةُ عَلَى جَمِيعِ الطُّرُقِ.
وَلهَذَا أُصِيبَ صَاحِبُ الْخَلْوَةِ بِثَلَاثِ تَوَهُّمَاتٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَعْتَقِدَ فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ أَكْمَلُ النَّاسِ اسْتِعْدَادًا.
وَالثَّانِي: أَنْ يَتَوَهَّمَ فِي شَيْخِهِ أَنَّهُ أَكْمَلُ مَن عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ يَتَوَهَّمُ أَنَهُ يَصِلُ إلَى مَطْلُوبِهِ بِدُونِ سَبَبٍ، وَأَكْثَرُ اعْتِمَادِهِ عَلَى الْقُوَّةِ الْوَهْمِيَّةِ، فَقَد تَعْمَلُ الْأَوْهَامُ أَعْمَالًا لَكِنَّهَا بَاطِلَةٌ.
وَقَد ذَكَرَ الْقُرْآنُ صَلَاحَ الْقُوَّةِ النَّظَرِيَّةِ الْعِلْمِيَّةِ، وَالْقُوَّةِ الْإِرَادِيَّةِ الْعَمَلِيَّةِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ؛ كَقَوْلِهِ: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [الفتح: ٢٨]، فَالْهُدَى كَمَالُ الْعِلْمِ، وَدِينُ الْحَقِّ كَمَالُ الْعَمَلِ؛ كَقَوْلِهِ: {أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ} [ص: ٤٥].
لَكِنَّ النَّظَرَ النَّافِعَ أَنْ يَكُونَ فِي دَلِيلِ؛ فَإِنَّ النَّظَرَ فِي غَيْرِ دَلِيلٍ لَا يُفِيدُ الْعِلْمَ بِالْمَدْلُولِ عَلَيْهِ، وَالدَّلِيلُ هُوَ الْمُوَصِّلُ إلَى الْمَطْلُوبِ، وَالْمُرْشِدُ إلَى الْمَقْصُودِ، وَالدَّليلُ التَّامُّ هُوَ الرِّسَالَةُ.
وَكَذَلِكَ الْعِبَادَةُ التَّامَّةُ فِعْلُ مَا أُمِرَ بِهِ الْعَبْدُ وَمَا جَاءَت بِهِ الرُّسُلُ. [٢/ ٥٤ - ٥٩]
* * *
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute